حينما يتصفح المرء طائفة من الدراسات التي ألّفها الدكتور علي زيعور (المولود 1937) وهو أحد أركان الهيئة التعليمية في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية، في الستينيات، لا بد من أن يحكم إيجاباً على ما أنجزه داخل الجامعة وخارجها، في مجال علم النفس الذي كان يترنّح عهد ذاك بين اتجاهين: اتجاه تغريبي، يفترض على من يودّ سلوكه من الطلبة أن يتقن اللغة الفرنسية، ودون تحصيلها عوائق وكوابح، تعترض بلوغه إياها على وجهها الكامل. واتجاه لتعريبه أسهم فيه زيعور نفسه مع رعيل من زملائه خريجي الجامعات الفرنسية آنذاك، ومنهم نزار الزين ومصطفى حجازي. ولا بد من أن يدرك تالياً حجم ما اختزنته الجامعة قبل الحرب الأهلية 75 من إمكانات علمية وثقافية، يشهد لها هذا الفيض من النتاج الأكاديمي الرزين والعميق، قبل أن تتضاءل أهميته مع مرور الوقت، ويزداد القحط والهزال بتأثير ما تفاقم من حزازات وعصبيات طائفية وحزبية، نهشت في الجسم الأكاديمي، وأضعفت مناعته العلمية.
ولم يقتصر دور الدكتور علي زيعور على تدريس ما توافر من مؤلفات موضوعة، أو قيد الترجمة، إنما سعى إلى بناء مشروع فكري شاسع، تحت عنوان التحليل النفسي للذات العربية، أنافت مؤلفاته على أكثر من خمسين كتاباً، عدا المراجعات والترجمات والإشراف. وتناول هذا المشروع مروحة واسعة من الموضوعات، والخبرات، والإشكاليات الفكرية، والمآزم النفسية، في المجتمعات العربية. وانفتح على مناهج وآفاق فلسفية ونفسية وإناسية. وبالدرجة الأولى على الموروث الفلسفي والديني واللغوي.
تميزت كتاباته بعكوفه على تحليل المعاش من تجاربه مع الناس، وما يتلفظون به، أو يتخيلونه، أو يتوهمونه، أو يحلمون به.
وزيعور يتفحص الشخصية العربية المعاصرة (الافتراضية) عبر أدوات وطرائق التحليل النفسي. يضعها على أريكة المريض، أو الصابر، كما يسميه، فيسائلها، ويراجع سيرتها الذاتية، ويكشف مكنوناتها الدفينة، ومشاعرها المكبوتة، ودوافعها اللاواعية. وفي هذه الجلسات العلاجية المفترضة، يرصد أقوالها وحركاتها وتصرفاتها، وكل ما ينمّ عن السوي والمرضي. لذلك يبوّب العديد من كتبه لا إلى فصول، كما هو الدارج، بل إلى جلسات، تبحث عن أوالية تكيّف الشخصية، أو اختلالها إزاء الآخر الذي تبدي إعجاباً به، أو نفوراً منه، ويطبّق على الأصولي السلفي نظرته التحليلية، كما على الحداثوي العربي المنبهر بالآخر الأوروبي والأميركي.
ويعمل زيعور على ما يدعوه بانجراحات الذات العربية. وينبّه إلى خطورة ثبات الخطاب السياسي الذي لا يراعي تبدّل الأحوال والظروف الدولية والاقتصادية. وحول التقدم الحضاري والتكنولوجي الذي تحتل فيه اللغة الإنكليزية مكانة راجحة على ما عداها، يرى إلى أن اللغة العربية التي تتزحزح في هذا الزمن عن موقعها، رغم تقدّمها النسبي على لغات أخرى، يطغى عليها الشعور بالدونية، والإحساس بعنف اللغة الانكليزية المهيمنة بخطابها الافتراسي، وانتشارها الكاسح للعولمة الرقمية. وسبق لزيعور أن أدان فرنسا التي أوجبت أيام نفوذها الاستعماري على رعاياها تعلّم لغتها، بما تمتعت به من حق القيادة والأستذة. ورغم نظرة زيعور الارتيابية إلى الغرب فهي لا تبلغ درجة الخصامية والعدائية، بل تبقى في نطاق محاولة استيعابية حضارية. وجلّ ما يسعى إليه أن يكون خطابه التحليلي النفسي في خدمة المشروع التنموي الشامل الذي يسعى إلى التحرر من الظلم والفقر والجوع. ويُعلي زيعور من شأن العقل التكنولوجي الاستراتيجي كأداة ضبط. فلا حداثة بدون العقل الحسابي الأداتي المتحرر من الدوغمائي واللاهوتي والسمعي والنقلي. وينتقد اللغوانية، أي اللغة الطنّانة والرخوة والفاقدة المعنى. كذلك لا تقود القراءة الإيمانية في رأيه إلا إلى معرفة مسبقة سلفاً، وإلى أحكام جاهزة مدجّنة واجترارية، تمثّلها الخطب الدينية والسياسية المؤججة لمشاعر الغضب، بألفاظها الدموية والسادية، والتي ترمي إلى تطويع الشعب، واخضاعه لطغيان الحاكم، وحليفه اللاهوتي. وينتقد المؤلف في هذا المقام أساليب التديّن وقشوره السحرية والأسطورية.
ويحثّ في هذا المقام على توليد الألفاظ، ونحت المفردات والصياغات، بغرض تجديد معناها وحيويتها وأدائها. ويتحسّر على أنه لم يواظب أيام تحصيله الجامعي، على اتمام اتقانه اللغة الألمانية التي تشرّع له آفاق الفكر الفلسفي الأرقى.
ويتخطى زيعور التوجهات المعتادة في علم النفس العيادي، كما هو متعارف عليه في الجامعات الأوروبية والغربية، ليطرح في مؤلفاته المتعددة استراتيجية ثقافية، تُعنى بالعقل الاجتماعي النفسي، لاسيما القطاع المغفل والمهمّش والمنجرح والمنسي والمقهور. وأشهر ما أسهم به زيعور هو البحث في قطاع الرموز والأحلام، كما في ميادين دراسة الأوليائية والبطولة. وقد دفع هذا المنحى بعض زملاء زيعور في الجامعة لموضعته في النقطة الرمادية بين الفلسفة وعلم النفس، حيث تتراوح كتاباته ودراساته في نظرهم بين السيكولوجيا والفلسفة.
وتفاعل زيعور مع ميادين عديدة لإغناء طريقته في مقاربة موضوعاته المتشعبة، كالفولكلور، والسِير التاريخية والذاتية، والطرائف، والأقوال المأثورة والدارجة، والألسنية، والروائز، والفنون، والخرافات، والحِكم والأمثال. واعتنى بوجه خاص بقطاع الأحلام الذي رأى فيه جزءاً أساسياً من حياة الشخصية، ينير الجوانب المظلمة من مآزمها وعقدها. ويقارب الأحلام من ضمن سياق نفسي وفلسفي يعبّر عن رغبات الحالم المكتومة، وعن رموز ثقافية حضارية ودينية. ويرى فيه أحياناً منتوجاً أدبياً وتجليات فنية وإبداعية. ورغم استلهامه نهجي فرويد ويونغ، إلا أنه يتجاوزهما إلى أبعد من ذلك، متقاطعاً مع التفسير الروحاني الإسلامي، حيث يغدو التفسير نشاطاً تربوياً، يشارك فيه الحالم، ويهدف إلى الوعي، أو اختبار ذاته، وتحليل أفكاره وهواجسه. ويرفض زيعور تفسير الأحلام بالاعتماد على قواميس المفاتيح الحلمية الجاهزة والمفروضة والمعممة. في حين يفترض أن تفسير الحلم يجب أن يكون خاصاً بالحالم عينه، وفي أوضاع وظروف معينة تتعلق بعمره وصحته، وببيئته الثقافية والدينية والتاريخية. ولا يجد غضاضة في مجاراة فرويد في تأكيده على الرغبات الجنسية، وفي تفكيكه عملية بناء الحلم بموجب استراتيجية فرويدية، قائمة على التمويه، والتكثيف، والإبدال، والتسوية، والتشويه، والتغطية أو الإزاحة.
وداخل مشروعه التحليلي الإناسي يدرس زيعور ظاهرة البطولة التي يسميها علم البطولة والأكبرية. ويرصد التمثّلات الواعية واللاواعية الملقاة على شخصيات بطولية هي من نتاج الأنا الأعلى، وتمثّل القيم الأخلاقية، والضوابط الاجتماعية والدينية. والبطولة من منظوره التحليلي تسهم في تكوين الهوية الجماعية، بوصف البطل المتوهَم المعصوم، أو المؤسطر هو المنقذ والمحرر. وبالمقارنة مع نظرية جوزيف كامبل في كتابه: "البطل بالف وجه" نقرأ سردية رمزية تتضمن رحلة روحية، تعبّر عن التحوّل الداخلي للبطل الذي نجد عند زيعور نظيره، متمثلاً بالبطل الصوفي المرتحل.
في كتابه "القول الفلسفي" يبوح الدكتور علي بما كان يُتداول من نقاشات ومشاحنات بين زملاء الكلية عهد ذاك، ويتعقب سلوكياتهم وطريقة مناقشاتهم باعتبارها عيّنات، أو حالات عيادية. واشتهر زيعور برأي يخالف ما شاع عن سبب انتحار الشاعر خليل حاوي، داحضاً القول بأن السبب المباشر، هو الاحتجاج على غزو الجيش الإسرائيلي لبيروت، وعازياً ذلك إلى تداعيات أزمة نفسية كان يعاني منها الشاعر قبلاً، ومن عوارضها النزق وعصبية المزاج، وفقدانه مشاعر الأمان والطمأنينة، والرغبة الملحّة بالموت. وكان زميله الشاعر يوسف الخال وصفه بأنه شخص مهيأ لينتحر في أي وقت. ويروي زيعور أنه حالَ في إحدى الجلسات دون أن يصفع حاوي الشاعر أدونيس، بعد أن احتدم بينهما النقاش حول أمور أدبية وإيديولوجية. ومع ذلك يتذوق زيعور جمالية شعر حاوي الذي يعبّر عن معاناته الوجودية.
وفي كتابه هذا روى أن الشيخ صبحي الصالح اشتكى أمامه من أنه لا يستطيع المجاهرة بكل آرائه في تأويل، أو تفسير بعض الآيات القرآنية، أو ابداء رأيه بمفاهيم اقتصادية، خشية اتهامه بالماركسية. كذلك تحدث عن السيد موسى الصدر بأنه لم يكن يولي أهمية قصوى للمعصومية والمهدوية اللتين تشكلان النواة الصلبة في المذهب الشيعي. وانتقد توجهات الأب عفيف عسيران (الذي تحوّل من الإسلام إلى المسيحية) اللاهوتية الفرنسية المتبجّحة، التي تستبعد العقل الشرقي والفكر الهندي لزعمها أنهما قاصران عن استيعاب الفلسفة الأوروبية المجرّدة. كما رفع زيعور من شأن الأغنية العربية التي تواكب تطور مفاهيم العصر، والنظرة إلى الحياة، وطرائق مجابهة الواقع. وأشاد بالصوت الشجي لأم كلثوم التي تنشد حباً لم يتحقق، ورغائب مقهورة، وكرامة مستلبة. ومحمد عبد الوهاب المطرب الفصيح والمثقف، ومارسيل خليفة الذي يحرّك العواطف الوطنية.
