صحيح، كلّ فيلم عن غزة يتحدث، بطريقة ما، عن الاحتلال الإسرائيلي، لكن الفيلم الخيالي "كان يا ما كان في غزة" للأخوين عرّاب وطرزان نصّار، تدور أحداثه قبل 20 عاماً تقريباً، في مرحلة مختلفة من الوضع الغزاوي، ويركّز على صراعات داخلية أكثر من اشتباكات عسكرية.
يبدأ الفيلم في العام 2007، في إحدى الفترات المتوترة بين إسرائيل والقطاع (لطالما كان الوضع كذلك)، لكن بشكل أقلّ بكثير مما هو عليه اليوم. تبثّ محطات التلفزيون في قطاع غزة صوراً إخبارية متعلقة بالاحتلال الإسرائيلي الطويل وحروبه المتوالية. في هذا السياق، يكسب أسامة (مجد عيد)، سائق التاكسي الثرثار واللطيف، رزقه من تهريب الأدوية. ليست وظيفته تهريباً مُحكماً، بل هي ببساطة طريقة كسب عيشه في مكان تندر فيه الفرص. ويلتقي أسامة بطالب شابّ يُدعى يحيى (نادر عبد الحي)، صاحب كشك لبيع الفلافل. هناك سيعمل "مكتب" المبيعات الجديد، حيث تُحشي السندويشات بشريطٍ من حبوب الترامادول كلما طلب الزبائن بعضاً من أجود أنواع الفلافل. لكن سريعاً سيواجه كلاهما عواقب علاقتهما بإسرائيل، بالإضافة إلى ظهور شُرطي فاسد (رمزي مقدسي) مُتحمّس لتفكيك المطعم ويضغط على أسامة ليُعلن أسماء مَن يتعامل معهم. يرفض الأخير - فالرجل يجب أن يحيا وفياً لمبادئ وقواعد - ويبدأ الصراع بينهما بالتصاعد.
في منتصف الفيلم، وبعد سلسلة من الصراعات التي لا ينبغي إفسادها أو الكشف عنها، يقفز الفيلم إلى العام 2009 ويبدأ تتمة تبدو مختلفة تماماً. هناك، نقابل مخرجاً سينمائياً (إسحاق إلياس) ينجز فيلم أكشن عن الصراع مع إسرائيل، يلفت انتباهه يحيى في الشارع ويدعوه للعب دور البطولة. يحيى ليس ممثلاً أو أي شيء من هذا القبيل، لكن المخرج أصبح مهووساً بفكرة أنه مثالي لهذا الدور، وشرع في القيام بذلك. ما لم يتخيّله أن الصراعات السابقة ستعود بطرق غير متوقعة. تتخذ الحبكة مسارات مفاجئة، من جريمة قتل إلى دور البطولة في فيلمٍ - "أول فيلم أكشن يُصوّر في غزة"، كما يُقال في الإعلان – متواضع الإنتاج، بتكليف من حركة حماس، مُستوحى من حياة مقاوم فلسطيني استشهد أثناء قتاله الاحتلال (المشاهد التي نراها في فيلم "المقاوم الشهيد" تبدو وكأنها مأخوذة مباشرة من فيلم أكشن منخفض الميزانية من التسعينيات).
يجمع "كان يا ما كان في غزة" بين مناخات سينمائية مختلفة، فيمزج أفلام الحركة، وأفلام الصداقة، والسينما داخل السينما (يستحيل عدم التفكير في جعفر بناهي)، والمنظور السياسي غير المتهاون (في نقد حماس كما في إعادة التذكير الدائم بأسّ المشاكل، الاحتلال، أو حتى بداهة الإدراك باستحالة العيش بلا سياسة في ظل الاحتلال). يروى الفيلم بموارد من الأنواع السينمائية الشائعة - فهو كوميدي لفترة، وفيلم أكشن لفترة، ودراما لبعض الوقت، وبدرجة أقل، فيلم سياسي - قصّة صداقة في سياق قاسٍ ومريب، حيث تهديدات خارجية، وصراعات داخلية (سيطرت حماس على القطاع العام 2006، وفرضت بعض القواعد الصارمة)، وأنشطة غير مشروعة تُورّط هذين الصديقين الأخرقين في وضعٍ يزداد تعقيداً.
وفي حين أن الفيلم لا يتعمّق في موضوعات مرتبطة مباشرةً بالوضع القائم اليوم، إلا أن المخرجَين (المقيمَين حالياً في فرنسا) يُدرجان بعض الإشارات إلى بناء الجدار الفاصل، ونشرات إخبارية، وبعض الانفجارات، ولقطات جوّية تُظهر بوضوح مناطق مختلفة من المنطقة، بدءاً من المستوطنات الإسرائيلية وصولاً إلى المناطق الحضرية الأكثر اكتظاظاً بالسكان حيث يعيش الفلسطينيون. لكن الفيلم في جوهره، يبقى قصّة صراع داخلي وكيف يتشابك الواقع والخيال بطرق غير متوقّعة.
ينجح "كان يا ما كان في غزة" في كسب تعاطف المتفرّج مع الصديقين المنبوذين، وتسليط الضوء على معنى الحياة في غزة وتمسّك الغزّيين بصمودهم وأملهم وكبريائهم في وجه الموت والعنف، مع اكتساب معان جديدة في ضوء الحرب الإسرائيلية الأخيرة على القطاع والمستمرة منذ 7 أكتوبر 2023. والنتيجة؟ فيلمٌ سياسي لا يحتاج إلى الصراخ، وإن كان إلحاح الوضع الراهن في القطاع يستحق قصة أكثر ملحمية وتأثيراً من هذه.
(*) يشارك الفيلم الفلسطيني "كان يا ما كان في غزة" للمخرجين طرزان وعرب ناصر في فعاليات مهرجان روما السينمائي الدولي ضمن فئة العروض خارج المسابقة، والمقرر عرضه في 24 تشرين الأول/أكتوبر 2025.
