زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى موسكو واجتماعه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ليست حدثا عاديا، ولا تشبه في ثقلها، وما يترتب عليها مستقبلا، غير الاجتماع الذي جمعه مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 14 أيار الماضي في الرياض، بترتيب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ومشاركة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن طريق تقنية الفيديو كونفرانس.
تشكل زيارة موسكو ذروة جديدة، في سلسلة القفزات الدبلوماسية التي حققها الشرع خلال عشرة أشهر من وجوده على رأس السلطة في دمشق، والتي بدأت أولى خطواتها من العالم العربي، بالمملكة العربية السعودية وقطر والامارات، ومن ثم تركيا الدولة الجارة المؤثرة في الشأن السوري، وفرنسا بوابة أوروبا، ورأس القاطرة الأوروبية.
مثلما لم يكن من المتوقع أن تنجح السلطات السورية الجديدة، خلال وقت قصير، ببناء علاقة جيدة مع واشنطن، رجحت غالبية التقديرات أن خط دمشق موسكو، لن يصبح سالكاً في المرحلة الحالية، وذلك لأسباب كثيرة، يظل أبرزها أن روسيا استضافت رئيس النظام السابق بشار الأسد، وشقيقه ماهر قائد الفرقة الرابعة، وعدداً كبيراً من المسؤولين السياسيين والعسكريين، يتجاوز عددهم 700 شخصية، جميعهم ضالعون في سفك الدم السوري، ونهب أموال سوريا وتهريب جزء منها إلى روسيا. والسبب الثاني أن روسيا هي التي أطالت أمد مأساة السوريين، حينما تدخلت بكل ثقلها العسكري في أيلول عام 2015 لمنع سقوط نظام الأسد، وقامت قواتها باقتراف جرائم واسعة وتهجير الملايين، ولا يزال الدمار الذي ألحقته بالعمران شاهدا من أقصى الجنوب، حتى نهايات الشمال.
حينما زار مساعد وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف دمشق في شباط الماضي، ساد الظن بأنه ينقل رسالة تهديد للقيادة السورية الجديدة، تنطلق من أوراق التأثير القوية التي تمتلكها روسيا في سوريا، وهي تبدأ من استضافة الأسد وحاشيته وضباطه، ولا تنتهي عند القاعدتين العسكريتين الجوية والبحرية، في منطقة الساحل السوري، بالإضافة إلى نفوذ وتأييد لدى فئات وأوساط سياسية، وحتى دينية، يعود إلى عقود عدة، ولا يكاد يضاهيه لجهة الاستمرارية والعمق، سوى الحضور التركي القائم على تاريخ مشترك مديد، وتفاعل يومي مستمر. وبالإضافة إلى ذلك، اعتمدت سوريا خلال 60 عاما على التسليح والخبرات التقنية السوفياتية، ومن ثم الروسية، في البنى التحتية، من مطارات وسكك حديد واستخراج البترول، ودرست في الجامعات والمعاهد السوفياتية والروسية أجيال سورية عدة. ويمكن القول من دون حرج إن الاتحاد السوفياتي شريك في بناء الدولة السورية.
الانطباع حول التهديد الروسي لسوريا، سرعان ما تبدّد عندما استقبل بوتين في نهاية تموز الماضي، وزير الخارجية أسعد الشيباني في موسكو، وتسرب في حينه أن القيادة الروسية تمد حبال الوصل مع دمشق، وترغب بفتح صفحة جديدة معها. وكان رد فعل القيادة السورية على قدر كبير من المرونة، وهنا كانت المفاجأة التي لم تكن في الحسبان. لقد تعامل الشرع مع الانفتاح الروسي ببراغماتية لافتة، فبدلا من أن يستحضر الماضي، وضع الحاضر والمستقبل نصب عينيه.
السؤال الذي طرح نفسه، ما الذي دفع الرئيس السوري إلى المرونة؟ أول مكسب حققه من ذلك هو، أنه ضمن عدم تدخل روسيا في الشأن الداخلي السوري، وحيد بذلك الأسد وجماعته الذين كانوا يخططون للنشاط من موسكو، وأحبط، بالتالي، حلم الجهات المحسوبة عليهم داخل سوريا من فلول، وغير فلول، كانت تنتظر تغطية موسكو، كي تخرب مساعي التحول الجديد.
يكمن المكسب الثاني في إعلان موسكو حرصها وتأييدها لوحدة سوريا، وفي ذلك رسالة موجهة إلى إسرائيل، والأطراف الداخلية السورية، التي تتبنى مشاريع انفصال وفيدرالية، وما شابه ذلك، ومنها قوات سوريا الديموقراطية "قسد"، التي خسرت بذلك تأييدا محتملا جدا لمشاريعها، لو أن موسكو ودمشق على خلاف، وهذا ما يفسر التصريح الذي صدر عن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في الثامن الشهر الحالي، حول ضرورة حفظ وحدة وسيادة الأراضي السورية لأمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط. وقال "وحدة سوريا يجب أن تهم جميع الدول المؤثرة في الأوضاع بمنطقة الشرق الأوسط، وروسيا مستعدة لمساعدة دمشق في مختلف المجالات".
الأمر الإيجابي الثالث هو قطع الطريق على أي إمكانية لتفاهمات روسية إيرانية للعمل ضد السلطة الجديدة في سوريا. ومن المعروف أن لموسكو وطهران مصالح مشتركة في سوريا، وقد جمعهما تحالف طويل الأمد تمثل في التعاون العسكري على الأرض، والسياسي في المحافل الدولية لدعم نظام الأسد.
على هذا يبدو إصلاح العلاقات السورية الروسية ضرورة، وليست خيارا، فسوريا تنتقل من حال إلى آخر، وهي بحاجة لالتقاط أنفاسها، وترتيب أوضاعها السياسية والعسكرية والاقتصادية، بينما لا تزال روسيا حاضرة بقوة على أراضيها، وفي شتى تفاصيلها، ولذا تعد الزيارة، وما نتج عنها نقلة مهمة في مرحلة عالية المخاطر.
النجاحات الخارجية حتى تستثمر على نحو نافع، وتتحول إلى رصيد فعلي للنهوض بالبلد، ووضعه على طريق التعافي، يجب أن تترجم داخليا من خلال إجراءات وسياسات وبرامج عمل، ليس فقط من أجل إعادة بناء ما دمره النظام السابق، وحلفاؤه الإيرانيون والروس، بل لمعالجة الجراح التي نجمت عن الأخطاء والتجاوزات في السويداء والساحل، والتي لا تزال طرية، وتحتاج إلى عمل جاد يضع عربة السلم الأهلي على السكة، وعدم التأخر فيما يخص العدالة الانتقالية، وهي الضمانة الفعلية من أجل انصاف الضحايا.
