لعل ما يشفع لسلمان رشدي سهولة تأليفه كتابه الأخير "السكين: تأملات بعد محاولة جريمة قتل"، وعاديّة الكتاب وتأملاته، أنه كتبه ونشره استكمالًا لاستشفائه وتعافيه، النفسيين والكتابيين من آثار 15 طعنة تلقاها جسدُه وكادت أن تنهي حياته. وصدر "السكين" في العام 2024 بالإنكليزية، وبالعربية قبل أشهر من هذا العام (2025) عن "دار الجمل"، بترجمة خالد الجبيلي، ترجمةً تصدع لمقتضيات الظروف والشروط والتنفيذ السيئة المعتادة غالبًا في الترجمة إلى العربية.
الفتوى والفتى والقتل الحميم
كما في مشهد مسرحي على منصة مسرح في نيويورك يجلس مشاهدون على مدرجاته، ركض فجأة من بين المشاهدين إلى المنصة فتىً أميركي عمره 24 سنة، ومولود في أميركا من أصل لبناني، ثم سدّد بسكين إلى جسد رشدي تلك الطعنات. حدث ذلك "في الساعة 11 إلا ربعًا من صباح نهار 12 آب 2022". وكان كاتب رواية "العار" في الـ75 من عمره، ويتهيأ لإلقاء محاضرة عن "أهمية الحفاظ على سلامة الكتّاب وعدم تعرضهم للأذى". لذا ظن جمهور المشاهدين أن اندفاع الفتى من بينهم وهجومه على الكاتب، ليس أكثر من مشهد أدائي مسرحي يمهّد للمحاضرة.
لكن الفتى اندفع إلى المنصة لقتل الكاتب فعلًا، وبقوة هدايته بفتوى آية الله روح الله خميني الشهيرة، تلك العائدة إلى العام 1989، وشبه المنسية بعدما أبطلتها أو ألغتها وتبرأت منها لاحقًا الجهورية الخمينية الإيرانية. لذا يبدو أن الفتوى بلغت متأخرة الفتى، أو كأنه بُلِّغ متأخرًا إسلامه، واهتدى إليه بنفسه متأخرًا، فاستلحق هدايته بفعل استرشد بفتوى فائتة. وهو "التحم"، على نحو "حميم"، بجسد كاتب رواية "آيات شيطانية" الصادرة قبل عام من إعلان الفتوى، التي اعتبرت أن الرواية "أهانت النبي محمد والإسلام والمسلمين جميعًا وسخرت منهم". لذا من "واجب" كل مسلم، أو هو مكلف "تكليفًا شرعيًا" حسب اللغة الخمينية، بأن يقدِم على "إعدام" صاحب تلك الرواية، أينما صادفه، بل عليه أن يسعى حثيثًا إلى قتله، حسب الفتوى. والسكين التي استعملها الفتى، هي أداة للقتل "الحميم" حسب توصيف رشدي في كتابه الأخير.
ويبدو الفتى الخميني، أو المجاهد الشيعي، أقرب إلى الجهاديين السُّنة الذين تصنّفهم اللغة الشائعة لـ"الحرب على الإرهاب" بأنهم من "الذئاب المنفردة". أي أولئك الذين يهتدون فرديًا أو ذاتيًا إلى الإسلام الرسالي الجهادي، ويندفعون على نحو فردي وذاتي إلى تنفيذ عمليات جهادية في الدول الأوروبية غالبًا، من دون ارتباطهم بجماعة منظمة. وهذه حال فتى "السكين" الذي هاجم رشدي لقتله.
بين اللعنة والنعمة
وفن سلمان رشدي في سرد أحواله وتأملاته الناجمة عن محاولة قتله في "السكين"، ينطوي على وجه من وجوه فنه الروائي في أعماله السابقة، لا سيما كتابه "جوزف أنطون: سيرة ذاتية" الذي أصدره سنة 2012، وروى فيه فصولًا من حياته وعيشه متخفيًا، حاملًا هذا الاسم المستعار طوال 12 سنة. وهو في اختياره اسمه هذا يكنّي عن شغفه بأدب كل من البولندي البريطاني جوزف كونراد (1857- 1924)، والروسي أنطون تشيخوف (1860- 1904).
وفي سرده الروائي والسيري وفي تأملاته الفكرية وتداعياته الذهنية والنفسية، لا يتوقف رشدي عن استدعاء أفكار ومقتطفات من أعمال كثرة من الكتّاب والمفكرين والروائيين العالميين، واستدخالها في سياقات أعماله الكتابية. بل هو يستدخل أيضًا محادثاته الشفوية الخاصة معهم، إضافة إلى مواقفهم وحوادث حياتهم، وكأنهم شخصيات روائية داخل رواياته. وهو غالبًا ما أكثر من ذلك بعد شهرته العالمية التي أصابته كلعنة أكثر بكثير كنعمة، جرّاء الفتوى الدينية التي أصدرها ضده مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية الأول.
وبقدر ما جعلت تلك الفتوى صاحب "أطفال منتصف الليل" كاتبًا وشخصًا مشهورًا، مثيرًا للجدل والسخط والغضب والتعاطف والتضامن، جعلته أيضًا تائهًا ومراقبًا، مطاردًا وخائفًا ومتخفيًا، منعزلًا مستوحدًا، ثم سلبته حرية العيش كشخص عادي، مجهول ومنسي كسائر خلق الله في تنقله وحله وترحاله. بل ربما سلبته حريته في الكتابة والنظر إلى نفسه والعالم وحوادثه ومآسيه.
ولولا بعض المقتطفات الروائية المتفرقة في كتابه الأخير وخاتمته الجميلة (19 صفحة)، لاستوى هذا الكتاب وتجانس في كونه من تجسيدات المأساة - الورطة الكتابية، النفسية والبدنية والوجودية، التي أوقعت الفتوى الخمينية سلمان رشدي في حبائلها، فصار أسيرها وسجينها كتابيًا، وأفقدته حريته في حياته الشخصية والعامة، بل حوّلتها إلى ما يشبه كابوس يومي دائم، حتى نهاية عمره. فهي رمته رغمًا عنه، بل كالقدر أدخلته على الأرجح في متاهة مطحنة أو "محرقة" دولية وعالمية عاصفة، سياسيًا وإعلاميًا وثقافيًا وحضاريًا وأمنيًا، فلم يعد في مستطاعه الخروج منها. فالفتوى الدينية الخمينية، جعلت عمله الروائي "آيات شيطانية"، على غير رغبة منه ولا إرادة ولا تصميم، من علامات تلك "المحرقة" ومحطاتها البارزة، التي راحت تتناسل وتتفاعل على الصعيد الدولي.
غربة الأفعال عن فاعليها
ألا يشي هذا كأنما البشر، أفرادًا ومجتمعات وجماعات ودولًا، على خلاف ما يحسبون ويظنون، غالبًا ما يتفاجأون بأنهم لا يمتلكون زمام أفعالهم وحوادث حياتهم، ولا يتحكمون بنتائجها عليهم وعلى عالمهم؟ وهكذا يبدو أن حياة البشر وتاريخهم يسيران على غير هدىً وخبط عشواء. فالأفعال التي يأتونها وتصدر عن إرادتهم ورغباتهم، ويحسبون أنها ملك بنانهم، سرعان ما تفاجئهم صيرورتها غريبة عنهم وعن مقاصدهم، حالما تتخذ مسارًا مستقلًا عنهم فيما هي تتفاعل وتصطدم مع أفعال وردود أفعال أخرى لا تحصى في وقائع العالم "الموضوعي" المضطرب والمتلاطم، فلا يعودون يتعرفون فيها على أنفسهم وأفعالهم ورغباتهم.
أليست هذه حال سلمان رشدي مع "آياته الشيطانية"، وحال الإمام الخميني مع فتواه، وحال ذاك الفتى الأميركي اللبناني الأصل، الذي هاجم رشدي وطعنه بتلك السكين، بلا أن يقرأ روايته "الشيطانية"، مستجيبًا الفتوى الخمينية بعد 34 سنة من إعلانها وصيرورتها شبه منسيّة؟!
والفتى ذاك -هادي مطر الذي يشير إليه رشدي بحرف "س" في كتاب تأملاته الأخير- ألم تسوقه ألوف المصادفات إلى فعلته؟ ومنها زيارته موطن أهله الذي لا يعرفه في جنوب لبنان وضاحية بيروت الجنوبية. وهو في أميركا نشأ وولد بعد 10 سنوات من إعلان الخميني فتواه.
رشدي ومأساة الشرق الأوسط
في بيروت أواسط الثمانينات على الأرجح -عندما كان رشدي يكتب "آيات شيطانية"، وبعدما اجتاح جيش الاحتلال الإسرائيلي العاصمة اللبنانية صيف 1982 عقب حصاره إياها حصارًا دمويًا مدمرًا، واقتلاعه منظمة التحرير الفلسطينية منها- ظهرت أولى محطات تلك "المحرقة" الدولية، حيث نشأ "حزب الله" الخميني، وبدأ "جهاده" أو "نضاله الانتحاري" السري ضد السفارة الأميركية و"القوات المتعددة الجنسية" الأميركية والفرنسية ببيروت، وضد قوات الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان.
وسبقت عمليات "حزب الله" السرية "الانتحارية" تلك، بعضٌ متفرقة "انتحارية" ضد جيش الاحتلال، قامت بها منظمات حزبية "علمانية" قومية ويسارية، في إطار ما كان "جبهة المقاومة اللبنانية". هذا قبل أن يقرر حلف النظامين الإيراني الخميني والسوري الأسدي، أن ينفرد "حزب الله" وحده بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي. لكن "المحرقة" الدولية لم تبلغ ذروتها القصوى إلا مع عملية أسامه بن لادن الانتحارية المذهلة في نيويورك وواشنطن في 11 أيلول 2001 وبعدها. وهي العملية التي يقال إنها غيّرت وجه العالم وانعطفت به منعطفًا جديدًا، لا تزال فصوله وتداعياته وتفاعلاته المنفلتة على الغارب مستمرة حتى اليوم. والأرجح أن تدمير العراق على ديكتاتورية صدام حسين فيه، واستمرار تدمير لبنان حتى اليوم، والمحرقة الإبادية في غزة، هي وجه من وجوه ذاك المنعطف الدولي الكبير الذي تشغل فيه أميركا وإسرائيل وإيران الخمينية بيضة القبان.
ولا يبدو أن لسلمان رشدي الكاتب الروائي والشخص الفرد علاقة بهذا كله، ولا يبدو أنه من شواغله وعلى بيّنة منه. وربما بلا دراية منه أقحمه القدر، قدره الكتابي وسوء حظه، إقحامًا متعسفًا في "المحرقة" الدولية هذه التي شاء القدر التاريخي الدولي أن يكون الشرق الأوسط الكبير مسرحها. هذا فيما يبدو أن محو الفلسطينيين من الوجود، هو مطلب أحفاد ضحايا محرقة النازية ليهود أوروبا التي لم يستفق ضميرها الأخلاقي إلا متأخرًا، لتعترف بوجود دولة فلسطين، ربما إنقاذًا لإسرائيل من وحشيتها شبه النازية، فيما هي تبيد فلسطينيي غزة.
وفي ما يرويه رشدي في كتابه الأخير "السكين"، لا يبدو أنه على معرفة وافية بمآسي الشرق الأوسط والفلسطينيين. لكن هذا ليس مطلوبًا منه ولا ضرورة لأن يستوفيه، ولا يفقِد فنه الكتابي والروائي شيئًا. فهو هندي المولد والنشأة والتكوين الثقافي الأول، قبل أن يصير أوروبيَ وأميركي الثقافة ونمط التفكير والعيش والإقامة والتذوق، ليستدخل عالم الهند، وثقافاتها وأساطيرها ومخيلتها، إلى الذائقة الثقافية الغربية، في رواياته "أطفال منتصف الليل" و"العار" و"آيات شيطانية". وهذه الأخيرة هي التي شاء القدر أن يستعملها الخميني ذريعة لتجييش العالم الإسلامي ضد سلمان رشدي، ما أدى إلى شهرته ومأساته شرقًا وغربًا، بما تتجاوز عالم الكتابة والفن الذي يحترفه. بل إن الفتوى الخمينية غيّرت مصيره الروائي والشخصي، فقيّدته أو سجنته في صورة لا خيار له فيها، وسقطت عليه كالقدر مثل فتوى الخميني.
وما سقط ويسقط على فلسطين والفلسطينيين من مآسٍ وويلات، ألمْ يسقط عليهم أيضًا كالقدر؟
حياة واحدة لا تكفي
في خاتمة "السكين"، يكتب رشدي أن انقضاء عام على "الاعتداء عليه" جعله يدرك أن ثلاثة أشياء ساعدته على التصالح مع ما حدث: مرور الزمن، العلاج النفسي، وكتابة كتابه هذا. لكنه ينسى حب زوجته إليزا، التي كان خصص لها فصلًا سابقًا من الكتاب روى فيه قصة لقاءاتهما الغرامية، ورافقته طوال سنة استشفائه الضارية والأليمة.
وأخيرًا يتساءل ذاك السؤال الوجودي: من أنا؟ هل الشخص الذي كانه قبل الحادثة المروعة، أم شخص آخر صاره بعدها؟ ومن التغيرات الأليمة التي تركتها الطعنات ولا يمكن زوالها، فقدانه البصر إلا في عين واحدة، إذ أصابت واحدة من طعنات الفتى عينه الأخرى وأذهبت نصف بصره. وهنا يستعيد رشدي ما رواه له مرة غونتر غراس من أنه يعيش منفصمًا في شخصين: غونتر وغراس. غونتر هو زوج زوجته ووالد أطفاله وصديق أصدقائه، أي الشخص الخاص. أما غراس، أي الشخص الكاتب العمومي المشهور، فيعيش "في مكان ما هناك من العالم، يُحدث جلبة ويثير مشاكل".
بهذا يقدم رشدي حديثه عن "رشدي الآخر المنتشر في العالم. رشدي الشيطان الذي اخترعه" الخميني وكثرة من المسلمين حول العالم وفتى الطعنات الذي أراد قتله بطريقة أدائية على المسرح. ورشدي هذا، "متغطرس، مغرور، واخترعته الصحف، مولع بالحفلات". ثم يعترف أنه يشتاق إلى رشدي الذي كانه في ليلة 11 آب 2022، السابقة على صبيحة الطعنات، والذي فصلته عنه السكين. وهنا يحضر ميلان كونديرا من دون أن يذكره رشدي: استحالة أن يعيش البشر الحياة، حياتهم، مرتين. فمرة واحدة لا تكفي لأن الكائن البشري تتقاذفه فيها أقدار غامضة ومجهولة، يستحيل تداركها إلا إذا عاش حياته مرة ثانية.
