من المناسب التحقيق أولاً في الهوية السردية لكاتب مثل ضياء الجبيلي، ينتمي الى أسرة السادة "الجبيليّين" الأفاضل التي تشكّل نسباً وطيداً بمدينة تاريخية كالبصرة المشكَّلة من عدد كبير من الهويات الأُسَرية. فالبصرة كما نعلم ذات طبقات عميقة، حكمَها الترك والفرس والبريطانيون، حتى عام قيام الجمهورية في العام 1958. مثل هذا التجذير العميق للهوية السردية يرسِّخ الجانبَ الأنثروبولوجي في دراساتنا التي تغفل الروابط العميقة بين الهوية الشخصية والهوية الاجتماعية- الثقافية- الإيديولوجية للكاتب، ويحدّد منطقة الانتماء في موضوعاته الروائية واختياره شخصيات من الأبطال المتوارين في زاوية هذا الاشتباك العميق.
إذا فهمنا مثل هذا التشابك، سنفهم الصراع المتواري في المنطقة التي تشتغل فيها استراتيجية الجبيلي الروائية، أي منطقة الهامش المزاح نحو العمق التاريخي والأنثروبولوجي الذي يحوي جماعات وأُسَراً وأفراداً – كالذين نصادفهم في عدد من رواياته، وأهمّها: أسد البصرة وبوغيز العجيب وتذكار الجنرال مود، وثورة الزنج، الفائزة بجائزة كتارا أخيراً. وهي كذلك منطقة الهويات الفرعية والإشكاليات الإيديولوجية، وحتى الشخصية، في أغلب قصصه القصيرة.
هل كان ضياء الجبيلي أميناً لهويته الاجتماعية والأنثروبولوجية والإيديولوجية عندما حدّدَ هويات أبطاله؟ نعم، لذلك سننغفل الكثير من التأثيرات، التي تبدو طارئة على سرديته- الطبقة السطحية منها- خاصة التأثيرات والتناصات المعاصرة، هذه المشتبكة بعنوانات رواياته وقصصه القصيرة: لعنة ماركيز، ماذا نفعل بدون كالفينو، النمر الذي يدّعي أنه بورخيس. لقد أدرك هامشاً بعيداً يشتبك مع هوامشه المزاحة نحو العمق المحليّ المكين. حدثَ مثل هذا الازدواج التثاقفيّ عندما احتاج الجبيلي إلى رافعات/ محرّكات إيديولوجية لطبقته الغاطسة في المزيج التاريخي الراكد من هويته السردية.
وبهذه الرجرجة لسطح الهوية السردية الساكن، تستطيع أعمال ضياء الجبيلي كوكبةَ مناطق اشتغالها بين كويكبات سردية عالمية؛ ومثل هذا الارتفاع من العمق الأصلي تغفله دراساتنا الادبية أيضاً، بل قد تزيد الرجرجة من احتمالات التشابك: كيف يبدو الكاتب محلّياً ومتأثّراً بأساليب سردية قادمة من مناطق عديدة (ربما انعكست هذه الرجرجة في أهمّ مجموعات الجبيلي القصصية: لا طواحين هواء في البصرة).
لو أدركنا مثل هذا الاشتباك الهوياتيّ بين الأصول التاريخية والأنثربولوجية والمؤثّرات القادمة من أكثر من مكان، سنفهم بشكل دقيق، لماذا يختار ضياء شخصياته من هامش دوّار – مثل طواحين الهواء- أو من منطقة مهملة في الوجدان والشعور العراقيّ والبصْريّ المتداخل بنيوياً ودلالياً، بحيث يصعب الفصل بين هوية السارد وإيديولوجيات أبطاله؛ بل حتى هوية القارئ الشريك في تشكيل منطقة السرد تلقائياً. من الصعب أن تتمركز بقراءتك في صميم الجوّ المحلّي، ثم ترنو ببصرك نحو طبقة متعالية من مفاصل الهوية السردية للكاتب، في الوقت نفسه.
لا يتاح لقارئ ضياء الجبيلي أن يكون قارئاً محايداً، إنما سيكون ثالث ثلاثة في قراءة عمل من أعماله القصصية والروائية، تتداخل فيه الحوادث الجوّانية وتلك الدائرةً في فضاء تناصيّ بعيد الأصداء- وهذه محنة لا ننكر تعرّض القرّاء لها بمواجهة أعمال سردية لأكثر من كاتب عراقي. فالمُلاحظ على قصص ضياء الجبيلي، أنها تستفيد من الاتجاهات التي نشأت حديثاً في سردنا العراقي، أي من المعايير التي يقاس عليها السرد العراقي الحديث، وأهمها معيار الواقع الافتراضي، هذا المعيار الذي يشتغل على تشابك الواقعي بالفنتازي في عملية رجرجة للتاريخ السردي الموروث من مراحل تاريخية سابقة. لقد نما هذا الاشتغال المترجرج من منطقة احتلال بريطاني- خلال عشرينيات القرن الماضي- وانعطف ببواكيره الفردية نحو منطقتنا الحالية ذات الانحيازات الهامشية الكثيرة. هل كان الجبيلي أميناً لهذه الانعطافات البيئية والإيديولوجية، بحيث أخذَ على عاتقه استئناف ذلك التقليد المبكر، وشقّ روافد جديدة لاتجاهاته المعاصرة؟
لن نتأخر في الجواب على السؤال، حين تواجهنا مجموعة الأعمال السردية، التي بلغ ضياء الجبيلي في كتابتها ونشرها شأواً بعيداً ونجاحاً باهراً.
(*) مدونة نشرها القاص العراقي محمد خضير في فايسبوكه
