"قهقه فوق النيل": كوميديا الأيديولوجيا والاقتباس

شادي لويسالسبت 2025/10/18
"إشاعة حب" في الاصل كان مسرحية اميركية
"إشاعة حب" كان في الأصل مسرحية أميركية
حجم الخط
مشاركة عبر

لعل مشروع وليد الخشاب المنصب على قراءة السينما الكوميدية المصرية هو أهم مساهمة معاصرة لتحليل التراث السينمائي المصري في عهده الذهبي. بعد كتاب "الاقتباس من الأدب إلى السينما: محطات من تاريخ مشترك" (2022) من تحريره هو وسلمى مبارك، وكتابه اللاحق "مهندس البهجة: فؤاد المهندس ولاوعي السينما" (2023)، يعود الخشاب في كتابه "قهقه فوق النيل: اقتباس الكوميديا في السينما" (2025) ليطور أفكاره بخصوص موضوعيه الأثيرين، أي الكوميديا والاقتباس، وليقدم أطروحة محكمة بخصوص السينما الكوميدية في مصر ومعها أدوات التحليل من زوايا الأيديولوجيا الوطنية والطبقة والجندر وعلاقات ما بعد الاستعمار

 

يركز الكتاب على اقتباس كلاسيكيات الكوميديا المصرية من أصول مسرحية وسينمائية غربية، وعلى كيفيه تطويعها لتصبح جزءاً من منتجات صناعة سينمائية على ضفاف النيل. يمكن تصنيف الكتاب ضمن دراسات الاقتباس، وهي الدراسات التي تركز عادة على "روائع الأدب" و"الأعمال الكبرى". وعلى هذه الخلفية، يعد الكتاب أول دراسة مطولة لظاهرة الاقتباس في عالم الكوميديا، كون الكوميديا مسألة جادة كما يذهب الخشاب في كتابه السابق، وتكشف مناطق مجهولة في تاريخنا الثقافي نظراً للحرية التي تتمتع بها من دون أن تثير حفيظة المجتمع أو السلطة السياسية.

 

وليد الخشاب

 

يحلل الكتاب 21  فيلماً، ويستخلص أن غالبية - إن لم تكن كل- كلاسيكيات الكوميديا المسرحية والسينمائية المصرية مقتبسة بدرجة أو بأخرى من أصول أجنبية. في أحد وجوهه، يعد "قهقه فوق النيل" موسوعة فيلمية تحفر في طبقات متراكمة من الاقتباسات للفيلم الواحد أو لأفلام عديدة قد تشمل مصادر متنوعة من مسرحيات فرنسية أو روسية أو ألمانية ومعها أفلام قد تكون هوليودية أو بريطانية، بعضها بالألوان والآخر صامت. ما يفاجئنا أن ما نعتبره مصرياً خالصاً أو نظنه كذلك، مثل أفلام إسماعيل يس في المؤسسات الأمنية والعسكرية المختلفة، يتضح أنه مع كلاسيكيات أخرى، مثل "غزل البنات" و"إشاعة حب" و"امبراطورية ميم" وأفلام محمد فوزي من صنف الكوميديا الغنائية وأفلام الريحاني، هي كلها تمصير لأعمال غربية، وفي أحيان نقل حرفي للمشاهد وزوايا التصوير بل وحتى تعبيرات وجوه الممثلين.

 

غزل البنات (1).JPG
غزل البنات

 

المثير للاهتمام أيضاً هو إنكار صنّاع الأفلام المصرية أحياناً للقرابة المباشرة مع أعمال غربية، ونسبتها لأصول كلاسيكية عربية أو أجنبية، بل وفي أحيان أخرى الاعتراف بالاقتباس لكن نسبته إلى كتّاب غربيين غير موجودين بالمرة. 

 

لا يكتفي الخشاب بهذا العمل الأركيولوجي المضني، بل يؤدي وظيفة المؤرخ حين يقوم بتحقيب موضوع دراساته، بداية من عقد الأربعينيات، أي مرحلة البراءة أو اكتشاف السينما كما يسميها، مروراً بالخمسينيات حيث تبرز "البراءة الواقعية" كمرحلة وسط تقود إلى الستينيات وهوسها الواقعي. في هذا، يمر الخشاب بشكل موجز على أطروحة بشأن "تراث البراءة" أو "براءة التراث"، باعتبارها لا تتطور بما يكفي، لكنها تفتح باباً رحباً للتأمل. يتوسع الخشاب في تطبيق مفهومه "إيديولوجيا الفودفيل"، وهو المفهوم الذي طرحه في كتابه السابق عن فؤاد المهندس، ومن خلاله يمكن فهم دور الكوميديا على خلفية وعد الدولة الناصرية للطبقة الوسطى بفتح أبواب الملذات والتنعم بالعلاقات الغرامية الحرة والرفاهية في مقابل الولاء للدولة الوطنية.

 

3 (2).jpg
اسماعيل يس

 

بالنظر في تراث الحداثة، والذي هو في الوقت ذاته تراث للاقتباس وتراث للكوميديا، لا ينظر الكتاب للاقتباس كعملية انتحال، بل مساحة للتفاوض الثقافي والتحديث. فالاقتباس يأتي، بعد الترجمة، بوصفه الصيغة الكبرى لنقل الحضارة الغربية إلى العالم العربي، وهو بحسب الخشاب الصيغة الأهم لاستيعاب الحداثة وهضمها. ومن حيث علاقات القوة بين المقتبس والمقتبس منه، لا يبدو الاقتباس عملية إخضاع أو استلاب، بل قد يكون مساحة لوضع اليد الوطنية على غنائم الحرب الثقافية في عالم ما بعد الاستعمار، أو هو مجال يدور فيه تفاوض هادئ ومرح بين الشمال والجنوب. في النهاية، يزعزع الخشاب بشكل كامل ما نعتبره كلاسيكياً أو أصيلاً، حتى في قهقهاتنا على براءة أفلامنا القديمة، وفي المقابل يقدم تصوراً مغايراً لتراث الفكاهة: هجين ولعوب ومتعدد وحديث ومتجاوز للحدود وفي الوقت نفسه شديد الأصالة. 

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث