رحيل رؤوف مسعد: متعدّد الهويات وإيروتيكي غير منضبط

محمد حجيريالسبت 2025/10/18
رؤوف مسعد
مثير للجدل وكان عرضة لاتهامات مختلفة سواء حول شطحات الكتابة أو لأسباب سياسية
حجم الخط
مشاركة عبر

بعد أسابيع على وفاة الروائي المصر صنع الله إبراهيم، يرحل صديقه ورفيق سجنه وكتاباته، الروائي والقصّاص والمسرحي والسيناريست رؤوف مسعد، عن عمر يناهز 88 عاما، وهو سوداني المولد ومصري النشأة وهولندي الجنسية. ويقارن البعض بين تجربته وتجربة صنع الله إبراهيم الذي ذهب في الاتجاه الثاني نحو التوثيق السياسي والاجتماعي، اعتماداً على المصادر والرحلات، في حين أن رؤوف اتجه نحو التوثيق من خلال التجارب الشخصية المباشرة، وهو الإحساس الذي يجده القارئ في رواياته.

 

رؤوف مسعد، المثير للجدل والذي كان عرضة لاتهامات مختلفة سواء حول شطحات الكتابة أو لأسباب سياسية، وهو أحد أبرز الأصوات الأدبية المصرية العربية، بعد مسيرة حافلة امتدت لعقود تنقّل خلالها بين القاهرة وبغداد وبيروت ووارسو وأمستردام. كان "متعدد الهويات" واكتشف نفسه في السجن (الناصري) وكتبه وكتب العنف السلطوي، ويعتبر أنه "لا حقيقة خارج الجسد". وهو بحسب الروائي وحيد طويلة "واحد من عشرة كتاب بالعربية يجيدون كتابة الإيروتيكا... بمقدار غير منضبط غالباً على نسق الآخرين..". ويصف نفسه فيقول: "أنا متمرد بالسليقة على أشياء كثيرة: "متمرد على أسرتي، وعلى طبقتي، وعلى ديانتي، وحتى على مبدأ الكتابة التقليدي. متمرد على فكرة تصنيف الناس دينياً، لذلك طلبت عضوية "حزب الله" كما تعلم، وأن يفتح الحزب أبوابه للمسيحيين. بل اعتبره البعض جنوناً، أو تمرداً، لا يهم. تزوجت وطلَّقت مرتين أنا المسيحي، حيث أن الطلاق صعب، ولذلك لم أتزوج داخل الكنيسة أبداً. رحلتي طويلة وكان بها متاهات. فمن بيت القسيس البروتستنتي الى الشيوعية، ومن الصحافة الى المسرح، ومن المسرح الى الصحافة، ومن الصحافة الى النشر والكتابة النثرية غير المسرحية. أحمل جنسيتين، وأعيش بين ثقافتين وعالمين"...

 

رؤوف مسعد
كانت "بيضة النعامة" صدمة

 

لا شك أن معرفتنا برؤوف مسعد بدأت مع روايته "بيضة النعامة" في منتصف التسعينيات، نظراً للغتها وجرأتها وبوحها في ذلك الوقت، وقبل غرق العالم العربي في الروايات المترجمة والمدونات والانترنت والثقافة البصرية. وأهمية "بيضة النعامة" أنها "تنتهك الحدود المرسومة في الكتابة" بحسب وصف إبراهيم فتحي في الأهرام، وهي "كتابة حائرة تلامس آخر ما تبقى من العالم " بحسب الكاتب أحمد الغريب في جريدة "الحياة"، وفيها شطح في السيرة الذاتية قبل الأوان، ذلك أن "الكتابة عن الذات هي أيضاً كتابة خادعة"، قبل أن تصبح السيرة أحدى ماركات الكتابة التجارية. وثمة مقطع ربما يختصر وجهة الرواية وهوية الكاتب، يقول "والعيال يقفون أمام الكنيسة ويرسمون على الأرض علامة الصليب بأقدامهم الحافية وبابا يقول معلش وحتى جماعتك ينبذونك لأنك بروتستانتي وأنت في السودان مش أسمر بما فيه الكفاية، وأنت في أوروبا مش أبيض بما فيه الكفاية، وأنت يساري أكثر من اللزوم، وبعدين أنت منحل زيادة عن اللزوم. تتجوز وتطلق على كيفك ومفيش حد مالي عينك".

 

تمرّد

 وفي الرواية التي نصح الروائي صنع الله إبراهيم، الناشر رياض الريس بنشرها، العام 1994، يطيح رؤوف مسعد كل المؤسسات، كالنظام (الناصري وغيره) والبيت والكنيسة (القبطية البروتستنانية وغيرها) والزواج والأسرة، كما أنه ينسف كل الأيديولوجيات بما فيها تلك التي آمن بها لدرجة أنه دخل السجن بسببها، حتى ينسف طريقة السرد. فهو لا يعتمد أي خط سردي تقليدي ولا يهتم بترتيب الزمن أو الحكايات أو إقناع القارئ بأن السرد يجب أن يمضي في خط منطقي معين.. وحين انتهى من كتابة "بيضة النعامة" استغرق سنة كاملة في إعادة الصياغات والاختصار وفق نصائح العارفين، مستلهماً النعامة من رمز كنسي يعني القدرة على الاستمرار. يعلق بيض النعام على حاجز الهيكل لأن البيض يشير بصفة عامة إلى القيامة وحياة الرجاء، وقد شرحه الكاتب في الرواية نفسها (ص272) يكتب: "أذكر أنني مرة حينما ذهبت في زيارة سياحية إلى أحد الأديرة أني رأيت بيضة نعام كبيرة معلقة على باب المذبح الداخلي. سألت الراهب المرافق عن معناها فقال لي: إنها رمزية لاستمرار الكنيسة عبر عصور الاضطهاد المتعاقبة. قال إن النعامة حينما تحس بالخطر تسارع بتخبئة بيضها، ثم تجري مبتعدة عنه، لتحوّل نظر المطارد عن البيض! قال إنها قد تضحّي بحياتها عالمة أنها قد أنقذت البيض".

 

وساهمت الرواية بقوة في تكريس رؤوف مسعد أديبًا، يقول مسعد: "حين رأيت نسخ بيضة النعامة وعليها اسمي، ساعتها فقط عرفتُ أني سأواصل الكتابة مكرساً كل وقتي لها"..."ولعله – أيضاً - كتابي الحقيقي الأول فقد كتبته على مدى ثماني سنوات طوال، وعانيت منه ما أعاني حتى الآن من كتابة أي عمل روائي؛ عدم الثقة والرغبة في النكوص".

 

51989175_1002192133238005_8505827321184256000_n.jpg

 

ولد رؤوف مسعد العام 1937 لأسرة قبطية بروتستانتية، وتمرّد على مذهب والده القس، معلناً رؤيته الحرة تجاه الدين والفكر والإنسان. التحقْ بالتّنظيم الماركسيّ "طليعة العمّال" وهو في السّادسة عشرة من عمره وبقي فيه حتى الثّالثة والعشرين، ثمّ تحوّل إلى "حدتو" في سجن القناطر وبقي مع "حدتو" حتى بعد حلّ الحزب وقبل العفو بوقت قليل. كان العفو في نيسان / أبريل1964، ثمّ حصل على منحةٍ من اتحاد الكتّاب المصريّين للسّفر إلى بولندا لدراسة اللغة البولنديّة العام 1970، وذهب للعمل في العراق العام 1975 حيث فاتحه كمال القلش الذي كان يعمل في صحيفة "الثورة" العراقيّة بالانضمام مرّة أخرى إلى "الحزب"، فانضم حتى استقال منه نهائيّاً العام 1980. و"من يومها وأنا شخصيّة مستقلّة خارج نطاق الأطر التنظيميّة" يقول رؤوف. تنقل بين بيروت حيث عمل في جريدة السفير" و"بيروت المساء" وكان مع المقاومة الفلسطينية. حتى استقر في العاصمة الهولندية أمستردام. منذ مطلع التسعينيات، بدأ مراجعات في الفكر والقراءات المتعمقة، ومن ضمنها كتابه الذي يتضمن حوارات مع نصر حامد أبوزيد المفكر المصري الذي رحل العام 2010، وصدر الكتاب العام 2011 بعنوان "رؤوف مسعد يحاور نصر أبوزيد"، متضمناً الحوارات العائد تاريخها إلى 2001 ويتناول قضايا شائكة حول الإسلام والمرأة وحقوق الإنسان والإسلام السياسي وغيرها من الموضوعات.

 

ترك الأديب الراحل إرثاً أدبياً متنوعاً بين الرواية والمسرح والسيرة الذاتية، من أبرزها: بيضة النعامة (1994)، مزاج التماسيح (2000)، غواية الوصال (1997)، إيثاكا (2007)، صانعة المطر (1999)، يا ليل يا عين ولومومبا والنفق، لما البحر ينعس: مقاطع من حياتي (2019).

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث