معرض آرام جوغيان: بنات ولدن من الماء وكنّ غيوماً

محمد شرفالجمعة 2025/10/17
آرام جوغيان
تبدو الخطوط وكأنها تنبسط وترتفع وتغرب في مناطق مختلفة في لوحات الفنان
حجم الخط
مشاركة عبر

استوقفنا معرض آرام جوغيان، لدى صالة Rebirth Beirut ، الذي اتخذ عنوان "Daughters, Water, and Clouds"  (بنات، ماء، وغيوم) ، لما وجدنا فيه من معطيات فنية تشكّل فرقاً، ولو نسبياً، في المشهد التشكيلي، الذي صرنا نرى العديد من تجلّياته في الوقت الراهن، في غير مكان، أكان ذلك في بلدنا أو في بلاد أخرى.

 

يمتد مسار جوغيان على مدى خمسة عقود من الزمن، وإن كنا لم نلحظ نتاجه فيما مضى من أيام، فلكونه بقي صامتاً لسنوات. هذا الصمت، الذي لا يدرك كنهه الكثيرون ممن لا علاقة مباشرة لهم بالتشكيل، يبدو طبيعياً في هذا العالم، الذاتي والموضوعي، البعيد من الاستقرار. هذا مع العلم أن اللجوء إلى الفن، على مختلف أنواعه، قد يجد طريقاً له لدى البعض في اللحظات الحرجة، أكثر منه في حالات الهدوء والاستقرار. وبما أننا لا نستطيع الجزم بما كان يعيشه الفنان، وحتى أي فنان آخر ما لم نكن على صلة مباشرة ووثيقة به، فإن الإحجام عن الإنتاج قد يكون له أسباب لا يعرفها سوى صاحب الشأن.

 

آرام جوغيان

 

ورد في النشرة الخاصة بالمعرض أن جوغيان شاء أن يشاركنا عالمه الداخلي، مانحاً الحياة للفكرة الشعرية: "بنات ولدن من الماء وكنّ غيوماً"، كتشبيه يعكس جوهر الرسم. . انطلاقا من هذه الفكرة، أو العبارة شبه السوريالية، الجديرة ببول إيلوار، والتي من شأنها أن تتخذ أبعاداً تمثيلية لا عد لها ولا حصر، اختار الفنان النمط التجريدي من أجل تجسد أعماله، علماً أن كلمة تجسيد (إذا ما اعتبرناها مرادفة لكلمة تمثيل) لن تكون صالحة للحديث عن نوع فني هو أبعد ما يكون عن التمثيل الكلاسيكي

 

آرام جوغيان

 

تحضرنا هنا عبارة الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (1925- 1995)، وهو القائل: "يسعى الفن التجريدي إلى صقل الإحساس، وإضفاء طابعه المادي عليه، من خلال توسيع نطاق التكوين المعماري ليصبح كائنًا روحيًا خالصًا، مادةً مشعةً، مفكرةً، لا إحساسًا بالبحر أو الشجرة، بل إحساسًا بمفهوم البحر ومفهوم الشجرة". ولا شك أن هذا القول ينطبق، إلى حدود معينة، على ما يصنعه جوغيان، هذا، مع العلم أن  الفن التجريدي، عموماً، هو فن لا يُجسّد الواقع البصري بدقة، بل يتواصل عبر الخطوط والأشكال والألوان والأنماط والعلامات الإيمائية، التي يمكن رصدها في لوحات الفنان التي نحن في صددها.. إلى ذلك، يستخدم جوغيان، كما سبقه إلى ذلك الفنانون التجريديون، تقنيات متنوعة لإنتاج أعماله، مازجاً بعضاً من الأساليب التقليدية بأفكار أكثر تجريبية. إنها عملية مستمرة من النظر والشعور والتفكير، بل وحتى عملية الرسم نفسها التي تسترشد بما يحدث على القماش،  فكل قرار وفعل يُحدث نقطة تحول صغيرة في العمل، والتي عليه، كرسّام، أن يتفاعل معها من جديد.

 

آرام جوغيان

 

وإذ نستغل المناسبة لطرح أفكار حول التجريد، ترتبط، بشكل أو بآخر بأعمال جوغيان، فمن الشائع مقارنة الفن التجريدي بالفلسفة، أو على الأقل اعتباره "عقلانيًا". إن عقلانيته المزعومة، المبنية على فكرة، والتي تمنع أي محاولة لربطها بالنظام الطبيعي للأشياء، هي التي تؤدي إلى تطهير الأشكال، والتخلي عن تعقيد الأشياء في العالم الخارجي. بل إن البعض يتهمه بالغياب التام للصفات الحسية، مشيرين إلى برودته، وجفاف هندسة أشكاله، وفي الوقت نفسه يتهمونه بتمرده على التقاليد، كما لو كان من الممكن حل المسألة ببساطة باتباع خيط الارتباطات الذي يرسمه مصطلح "تجريدي". وفي الواقع، لا بد أن التجريد، كعملية ذهنية، وبمعناه الأكثر شيوعًا، يستدعي فكرة التعميم (في تكوين المفاهيم)، والتي تعني إفقار تجربتنا الفردية الخاصة، من خلال العزل والتقييد، وفصل عنصر عن كل "ملموس" يُدرك بكامله.

 

تبدو الخطوط وكأنها تنبسط وترتفع وتغرب في مناطق مختلفة في لوحات الفنان. تكتسب الألوان استقلاليتها وتفاعلها فيما بينها، وخصوصاً حين يتعلّق الأمر بالتآليف ذات الخطوط الأفقية. خطوط تنتهي عند حدود اللوحة، ولكن يبدو أن بإمكانها أن تمتد إلى ما لا نهاية. من هذه النقطة، ونقاط أخرى كذلك يبرز البعد الرمزي للخط التجريدي، الذي يطفو ويسير بحرية على القماش. ينجذب النظر في المقام الأول إلى هذه التسلسلات اللونية، ثم تتبع العيون الخطوط والألوان، وتقرأها من اليسار إلى اليمين، ومن الأعلى إلى الأسفل، ومن الخلف. يُدعى المشاهد إلى الدخول في هذا العالم اللوني المتناغم، والانطلاق في رحلة إلى حياة هذه الألوان الهاربة في الأفق. واستناداً إلى ما ورد في النشرة، وما ألمحنا إليه أعلاه، نتأمل حياة هذا التآليف جنبًا إلى جنب مع ألوان الحياة: السلام والجمال والحرية، وهي، كلها، مشاعر يختبرها المشاهد المشارك في هذه المساحة الوهمية. الرؤية، هنا،  مسألة خيال، وليست مجرد شعور فيزيولوجي. ويخيّل إلينا أن أعمال جوغيان تتجاوز الحدود المادية، وتفقد اللوحة حدودها، فلا أطر ولا حدود، بل ألوانٌ وخطوط حرة تُقرأ كلغة بصرية شكلية، حيث تطغى الخطوط الأفقية على البنى العمودية أحياناً، أو النظام الحر أحياناً أخرى. هذه العناصر المترابطة تُميّز أعمال الفنان، على ما استطعنا ملاحظته في معرضه الحالي

 

آرام جوغيان

 

ما من فواصل في لوحات الفنان، وهو أمر نلحظه في أعماله البعيدة من "الهندسة"، التي تشكّل جزءاً آخر من معرضه. تسبح الأشكال اللونية في فضاء اللوحة، من دون أن تترك مجالاً لفراغ ما، علماً أن مساحة القماش لا تبدو كحقل شديد الكثافة، بل تتنفس اللوحة من خلال "استراحات" لونية. هذه الاستراحات المدروسة تؤدي الوظيفة نفسها كما في السيمفونية الموسيقية، فنحن في حاجة إلى هذه المساحات الصامتة للتنفس، والقراءة، ورصد تناغم الألوان، التي تُضفي إحساسًا بالزمن كألوان عابرة، وهذا الإحساس بالحركة ينبع تحديدًا من هذه العلاقة المتناغمة التي تُبرز لغتها البصرية.

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث