يصدر قريبًا "كتاب الغرفة" للكاتب والشاعر اللبنانيّ عقل العويط. ونقرأ في النبذة:
هذا كتابٌ ينبع من غرفة، وهو سيرةٌ روائيّةٌ شعريّةٌ يكتبها شاعرٌ في وداع غرفةٍ شيّدها وأثّثها كآدم بعد سقوطه من الجنّة.
وهو كتابٌ يصنع جنّته الأدبيّة، فيما هو يستغرق في كتابة سيرةِ كائنٍ فردٍ يتفرّد في استحضار العالم والكون والكينونة إلى غرفةٍ وطاولةٍ للكتابة ومكتبةٍ وسريرٍ وسائر أشياء الحياة وكائناتها.
وهو كتابُ سيرةِ جيلٍ لبنانيّ ولد في مطالع الخمسينات من القرن العشرين.
وهو كتابٌ عن لبنان الحلم والدم والحرب والمأساة والخراب. عن العزلة والوحدة والتقشّف والرضا. عن المرأة والحبّ والجنس والموت. عن الطفولة ورعونة الشباب. عن الألم والمرايا. عن الجامعة اللبنانيّة وكلّيّة التربية وحركة الوعي ولبنانها الذي جعله السلاح والقتل مستحيلًا. عن القهوة وفنجان القهوة الصباحيّ. عن الكتب والمكتبة والموسيقى والرسوم. عن الليل وبيروت ورأس بيروت والصحافة و"النهار" و"ملحق النهار" الثقافيّ واللغة العربيّة.
هنا نص من الكتاب، خاص بـ"المدن":
عندما سألني صديقي الشهيد إنْ كان يمكنني استضافته، هربًا من المُخبِرين والأمنيّين الذين كانوا يلاحقونه، ليلَ نهار، في العشيّات التي سبقتْ ربيع العام 2005، ومهّدتْ لثورة الاستقلال الثاني، كنتُ أعرف حجم الخطر الناجم عن ذلك، لتأكّدي من أنّ زبانية النظام الأمنيّ الاستبداديّ، اللبنانيّ – السوريّ، سيشتمّون الرائحة، وسيكشفون مكان لجوئه. وافقتُ بالطبع، وانتظرتُ مجيئه، بعدما أعددتُ له الطعام الزهيد الذي كنتُ أُهيّئه عادةً لنفسي: اللبنة والجبنة والصعتر والبندورة والخبز المصنوع على الصاج، إلى كؤوسٍ من الكونياك الممتاز، كان صديقي الشهيد يشمّ فوّهة زجاجته بترفٍ ونزق.
كان ذلك في عشيّات العام 2005، ربّما قبل سنة، أكثر أو أقلّ. الزمن زمن ملاحقاتٍ أمنيّةٍ متوحّشة كان صديقي الشهيد عرضةً لها على يد الجهاز الأمنيّ الاستخباراتيّ اللبنانيّ – السوريّ، وأذياله، المُحكِمين قبضتهم على لبنان كلّه، ولا سيّما على أصحاب الرأي الحرّ، وهو منهم في المقدّمة، بسبب مقالاته ومواقفه الجريئة الحرّة المتجاسرة.
في ذلك المساءٍ، قُرِع باب شقّتي في الطبقة الرابعة من المبنى الذي كنتُ أسكنه في حيّ مار يوحنّا، تحت دير يسوع الملك، بزوق مصبح. كانت زوجته في الباب، ووراءها هو. قالت بألفتها المحبوبة، وبوجهها الجميل المتبسّم، لكنْ بعزيمتها الهائلة ومراسها العنيد: «ظَمَطْنا، وسينام عندك الليلة». تَجَنّبْنا التواصل بالهاتف تفاديًا لالتقاط المخابرة، وتتبّع مصدرها ومكانها، بعدما تَحايلنا على العناصر التي تلاحقه، وفَوَّتنا عليهم فرصة العثور عليه.
"هل من كونياك لديك، جدير بالمذاق؟" سألني هو بتعاليه المتشاوف اللذيذ، وبلامبالاته الساخرة، وأردف: «هل من لبنةٍ بلديّةٍ للعشاء، وزيتون، وبندورة جبليّة، وخبز صاج، شغل القرية؟». كان «دلعه» يأخذ منّي قلبي، فأستطيبه، وأرحب صدرًا به.
طلبتْ هي موسيقى. لم أعد أذكر جيّدًا هل طلبت الاستماع إلى موسيقى هادئة خفيفة، أم إلى الجاز على البيانو، أم إلى مايلز ديفيس، أم سواه. جلستْ هي لا تأكل، مكتفيةً بالمؤانسة، وبالنظر الأكول إليه، وهو يحتسي، ويتلمّظ بخبز الصاج المغموس باللبنة والزيت الكورانيّ، على جوعٍ طفوليّ، لكن بدَعَةٍ، واسترخاء، بعدما نزع حذاءه وتربّع على الكنبة متهالكًا من فرط أتعابه وهمومه ونعاساته المتأرّقة بلا انقطاع.
ثمّ غادرتْ.
عندما اطمأنّ إلى الهدوء الذي يخيّم على الحيّ السكنيّ حيث أقيم، صعد إلى الطبقة العلويّة لينام، تاركًا إيّايَ، من حيث لا يدري، فريسة الهواجس المكتومة.
استفقتُ في نحو الرابعة فجرًا على صوت هاتفي الخليويّ مُرسِلًا رنينه الرهيب في ذلك الليل الأمنيّ. كان جاري في الطبقة الأولى من المبنى، على الطرف الثاني من الخطّ، وقد شاء أنْ يُعلِمني بأنّ رجال المخابرات يسألون عنّي، وعن مكان إقامتي، مستفيضين في طرح الأسئلة الأمنيّة المعهودة.
حافظتُ على رباطة جأشي، وأخبرْتُ الجار بأنّ المسألة معروفة، وبأنّي سأخرج على الفور إلى الشرفة، المطلّة على البحر، وأُشعِل الضوء، ليعرف هؤلاء بأنّي لا أهاب وجودهم. وهذا ما فَعَلْتُه تمامًا.
كان الجيران في الحيّ على علمٍ بما كنّا نعانيه في تلك المرحلة من مضايقات، وبما نستشعره من مخاوف، نحن الكتّاب والصحافيّين القلائل الذين أخذْنا على عاتقنا أنْ نواجه بالقلم والورقة، ما انكفأ كثيرون عن مواجهته. الجيران أنفسهم، كانوا عيونًا أمينةً، مفتوحةً، وساهرةً عليَّ، وسأحفظ لهم ما حييتُ انتباههم إلى كلّ شاردةٍ وواردة، من شأنها أنْ تكون على صلةٍ بما يُدبَّر للأحرار مطلقًا.
لم أعدْ أتذكّر تمامًا الحيلةَ التي نسجْنا خيوطها مع الجيران، ليتمكّن صديقي الشهيد من مغادرة المكان آمنًا، في نهار اليوم التالي. غير أنّه استطاع يومذاك أنْ يخترق طوق النظام الأمنيّ، ولكنْ ليس إلى وقتٍ طويل.
