"الحرب بيننا يا حياة"...غنّى عبد الحليم في الشيّاح

خضر حسانالجمعة 2025/10/17
عباس جعفر الحسيني
عباس جعفر الحسيني
حجم الخط
مشاركة عبر

قَطَعَ عبّاس وعداً لأمّه بمرافقتها في رحلة يوم الأربعاء إلى العتبات المقدّسة في العراق، وكان لا بدّ من الوفاء بالوعد رغم ما طرأ عليه من عمل مفاجئ. فانطلقت هي مع "حملة" الحجّاج إلى العتبات، وتنقَّل هو بعد إنهاء عمله، بين بيروت ودمشق ليلاً، وصولاً إلى بغداد. هكذا افتتح الكاتب والروائي عبّاس جعفر الحسيني روايته التي صدرت قبل أيام، بعنوان "الحرب بيننا يا حياة"، بوفاء سوف يَظهَر في صفحات الكتاب رغم تنوّع الأحداث.

 

من لسان الشاب الذي يقطع الحدود ليوافي أمّه المصابة بمرض السرطان، إلى لسان الطفل الذي يكره الاستعداد ليوم المدرسة، ينتقل عبّاس لتصوير جزء من تجربته خلال الحرب الأهلية التي اندلعت في العام 1975. ويظهر سريعاً من الصفحات الأولى، أنّ الرواية ليست تأريخاً للحرب، وليست اجتراراً إضافياً لقصص رتيبة عن يوميات عائلة مسيحية تجاور عائلة مسلمة ثم تفرّقهما الحرب الطائفية.

 

العندليب الأسمر في الشيّاح

في أحد الأبنية في منطقة الشيّاح - طريق صيدا القديمة، كان صوت عبد الحليم حافظ يصدح على مسمع عبّاس الذي لم يتجاوز عمره ست سنوات. فشقيقه الأكبر نبيل، عاشق عبد الحليم، يُطلق العنان للصوت الخارج من الراديو. ومقاطع أغنيات العندليب الأسمر، ستلوِّن محطّات الرواية وتخفِّف منسوب القلق والتوتّر والحزن الذي سيُلتَمَس تباعاً. وصفحة بعد صفحة، حرصَ عبّاس الكاتب على التنويع بالأحاسيس، الأمر الذي سيساعد القارئ على الاندماج في الأحداث والانفصال عن الواقع.

 

بعيون عبّاس الطفل وكلماته، نقلَت الرواية مزيجاً من يوميات سكّان خطّ التّماس بين الشيّاح وعين الرمانة. رصاصات القنص، الحياة اليومية للجيران في المبنى، اختلاف شكل الحجاب عند النساء المسلمات بين غالبية غير محجّبة أو يرتدين منديلاً يغطّي نصف الشعر، وبين قلّة يرتدين حجاباً يغطّي كامل الرأس. فضلاً عن استحضار عادة الختان للذكور، إلى جانب الجار الذي "عاش فترة طويلة في الأرجنتين وعاد إلى لبنان عجوزاً". وبين تلك الصور، يستمرّ حضور "صوت نبيل وموسيقاه، والذي يصرّ على الاستمرار رغم كلّ شيء"، كما يقول عبّاس.

 

ومع أنّ الجوهر الأساس لحبكة الرواية، يقبع في الشيّاح، إلاّ أنّ تصوير الانتقال بين بيروت وبلدة النميرية في الجنوب، تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي، كان ركناً أساسياً لا تكتمل فصول الرواية من دونه. فضلاً عن الحضور البارز للوالد الذي كان آمر مخفر في قوى الأمن الداخلي، والذي فضَّلَ الالتزام بالدولة والقانون رغم سيطرة الميليشيات والفوضى في تلك المرحلة.

 

وللنساء والحب حيّز في الرواية. فكان عبّاس الطفل يحبّ الصبايا من بنات جيرانه رغم أنّهن يكبرنه بسنوات، ويُخَيَّل إليه أنّ اللطافة التي يبدينها له، حُبّ سينتهي بالزواج. ليسارع إلى كره كلّ صبيّة تعلن خطوبتها من شاب من أبناء جيلها، إذ ينكسر حلم الزواج في مخيّلة ذلك الطفل الذي لم يكن يواسيه سوى الجلوس قرب شقيقه نبيل وصوت عبد الحليم.

 

عباس جعفر الحسيني

 

رصاصة: لو شفتم عينيه

تحت عنوان رصاصة، وجملة "لو شفتم عينيه" من أغنية لعبد الحليم، يدخل الكاتب إلى المنعطف الذي سيغيّر حياة العائلة إلى الأبد، وتالياً مسار الرواية.

من شبّاك المنزل، رأى ذلك الطفل أخاه الأكبر نبيل ممدّداً على الأرض، إذ باغتته رصاصة قنّاص أتت من جهة منطقة عين الرّمانة. اختاره القنّاص عوضاً عن صديقه فادي الذي مشى قبله. وفي تلك اللحظة، يقول الكاتب في وصف شعوره حينها "وكأنّ الرصاصة قد شطرت الحياة إلى ما قبل وما بعد". خرجت الأم إلى الشارع، تحاول مع الجيران نقل ابنها المصاب إلى المستشفى، ومع ذلك "قضي الأمر... لقد قُتِل نبيل". وردّدت الأم من أمام مدخل منزلها "لن أدخل هذا البيت في حياتي أبداً". وفي ذروة قساوة المشهد، حَضَرَ عبد الحليم، إذ أنّ عبّاس الطفل أدار "مسجّلة نبيل وعبقَ الجوّ بصوت عبد الحليم: بتلوموني ليه، لو شفتم عينيه، حلوين قدّ إيه"، وكأنّ الصدفة شاءت أن ينطق كلام الأغنية بما كان يريد عبّاس قوله عن شقيقه.

 

ومن بين صوت عبد الحليم ومشاهد التعزية بمقتل نبيل، يكبر الطفل فجأة وتعود أحداث الرواية بالقارئ إلى العراق، وتحديداً إلى كربلاء حيث يعانق عبّاس الشاب أمّه في الفندق، فيحقّق وعده لها. وفي هذا السياق، تعمّد الكاتب تقسيم الرواية ضمنياً لتنويع المشاهد وتخفيف وطأة الحرب والحزن، قبل أن يعود طفلاً يستذكر الانتقال إلى المريجة وعمارة يعقوبيان ومقتل بشير الجميّل، لينتهي به المطاف مجدداً، شاباً في النجف.

 

هي رحلة حياةٍ صوَّرَها الكاتب، اختصاراً لرحلة أمّه التي تحمل اسم "حياة". أمٌّ غَيَّرَ موت ابنها الأكبر مصيرها ومصير عائلتها، إذ سينفصل الوالدان في العام 1985 وتموت حياة في العام 2003 تحت وطأة السرطان، ملتزمة بعدم زيارة بيتها الذي قُتِل ابنها أمامه قبل تحقيق حلمه بالسفر لإكمال دراسته الجامعية خارج لبنان. أمّا الوالد، فبقي يردّد باستمرار أنّ "موت نبيل خرب البيت"، إلى أنّ توفّي في العام 2010. وأمام مزيج المعاناة والفرح والموت والغناء التي نقلَ عبّاس أحاسيسها بكل حرفية، لا عجب أن يصدف اسم الأم "حياة" وتختصر قصّتها فصولاً من الحياة.

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث