مدن الخراب في الريف الدمشقي: لكل "تعفيشة" تاجر!

زيد قطريبالخميس 2025/10/16
حجم الخط
مشاركة عبر

دمشق مزنّرة بالخراب. هكذا يبدو المشهد، لزائري المدينة، وهم يهبطون في الحافلات من أعلى تلّة "الثنايا"، نحو أقدم عاصمة في التاريخ. المعارك كانت ضارية هنا، بدءاً من عدرا ودوما وحرستا والقابون، وصولاً إلى جوبر وعين ترما والكباس.. ترى أين اختفى السكان، حتى بدت تلك القرى وكأنها مناطق أشباح؟

 

يؤكد العائدون إلى مخيم اليرموك، أنهم لم يعرفوا أين تقع منازلهم، من شدة الخراب.. فلا شوارع أو علامات تدلهم على الأمكنة، فقط أكوام من الركام، تداخلها أشجار يابسة، أو بعض الأعمدة الناجية من القصف. الجميع يتحدث عن شاحنات الحديد والخردة، التي كانت تخرج من تلك المناطق، إلى معامل الصهر وإعادة التدوير. "فحتى الخراب، استطاع النظام السابق، أن يستفيد منه"، تقول إحدى العائدات لمخيم اليرموك، التي كانت تأمل بالعثور على بعض الجدران الواقفة في منزلها، لكنها للأسف لم تستطع إيجاد البيت نهائياً.

 

 

منذ العام 2011، نشأت طبقة جديدة من أثرياء الحرب في سوريا، وكان أشهرهم مَن مارس تعفيش الأثاث المنزلي ومعدات البنية التحتية، لكن سحب القضبان الحديد من جدران الباطون والركائز والسقوف، لم يخطر في بال أحد، نظراً للمعدات والكادر البشري الذي يتطلبه. فجاءت صفقة مع أحد التجار، لتجعل كل شيء ممكناً، وما هي إلا مدة قصيرة، حتى بدأت الشاحنات المحملة بحديد الأبنية المنهارة، تظهر للعيان في طريق المتحلق الجنوبي.

 

مع الوقت، ظهر اختصاصيون في كافة أنواع البضائع المعفشة. جماعة متخصصة في الحديد، وأخرى في النحاس، وأخرى في الأدوات الكهربائية والأثاث المنزلي.. حتى كابلات الهاتف المطمورة وشبكات المياه، وجدت من يحولها إلى تجارة رابحة في سوق المُستعمل، حيث كانت تباع بكميات ضخمة بأبخس الأسعار..

 

ريف دمشق

 

أناس كثر عثروا على أثاث منازلهم ضمن معروضات سوق الحرامية في شارع الثورة بدمشق، وبعضهم الآخر، فوجئ بالخزانة أو غرفة النوم ومعدات المطبخ، فعمد من يملك القدرة، إلى شرائها من جديد، لأنها باتت الأثر الوحيد من تاريخهم العائلي، أما من لم يتوافر لديه المال الكافي، فاكتفى بالحسرة على رؤية جزء من ذاكرته يباع على الرصيف.

 

نحاول اقتفاء الذاكرة، في آخر حي التضامن حيث امتدت خطوط التماس، خصوصاً في المنطقة المعروفة بحيّ "الطبب" العشوائي. الحرب دمّرت البيوت بالكامل، وحوّلتها إلى أكوام ضخمة من الركام، لا يمكن التعرف إليها، حتى بالنسبة إلى من سكن هذه الحارات، سنوات طويلة من الزمن.

 

نسأل إمرأة الجالسات أمام ركام بيت: أين هو الفرن؟ وهل ما يظهر من هذا الشارع، هو الشارع الزراعي؟ فتقول: نعم! لكننا نكتشف بأن الفرن تلاشى، وبيت أم أكرم أصبح خراباً، أما صاحب البسطة "أبو رغيد"، فقد قتل في بداية الحرب، مع ابنه، عندما هاجمه مجهولون بالسكاكين. نقول للمرأة: على مهلك! فقدت قضيتِ على معظم أهالي حارتنا القديمة! فتضيف بأن بيت غرز الدين هو ذلك الركام الذي يظهر من بعيد، أما بيت دلول، فقد مسح عن الأرض نهائياً، ويرجح أنه كان في ذلك المربع، وتشير إلى مساحة لا يظهر منها سوى بقايا "البلوك"!

 

ريف دمشق

 

مات معظم سكان الحيّ، في عمليات القتل والقتل المضاد، وجزء منهم قضى بالقصف المدفعي وقذائف الهاون. ذلك الشريط الفاصل بين نهاية "التضامن"، حيث يقع فرن "أبو ترابي"، ونهاية حيّ "الطبب"، كان الأخطر، باعتباره خط تماس بين الجنوب والشمال، لكنك كلما اتجهت بشكل معاكس، راح الخراب يقلّ، وبالتالي يمكن اكتشاف معالم الجغرافيا لمن يعرف تلك المنطقة جيداً.

 

ريف دمشق

 

لم يبق للفقراء في تلك المناطق المدمرة، سوى جمع عبوات البلاستيك، والمخلّفات التي لم يعبأ بحملها تجار الحرب. ففوق كومة من الخراب الهائل، نعثر على ثلاثة أطفال يجمعون تلك الأشياء في أكياس، لكنهم يخافون من الكاميرا، ومع التودد يخبروننا أنهم يبيعون ما يجمعونه آخر النهار، كي يسدوا رمق العائلة الفقيرة، لأن الأب مات، والأبناء عددهم كبير!

 

يعود زائر تلك المناطق، بعبء ضخم من التشوهات والهول. تُرى هل يمكن تجاوز هذا كله؟ وبأية طريقة يمكن صياغة صفحة أقل سواداً مما شاهدناه؟ لكن ابتسامتَي الطفلتين وفاء وهديل، أثناء حديثهما عن جمع البلاستيك، يؤكد أن الحياة ستستمر، وأنه لا بد من ضوءٍ ولو شحيح، ينهي ظُلمة هذا النفق.

 

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث