"مرقد العنزة": جريدة الشعر العامّي وثورة طانيوس شاهين

محمد حجيريالأربعاء 2025/10/15
اسعد سابا
حجم الخط
مشاركة عبر

"نيال اللي إلو مرقد عنزة بجبل لبنان". قولٌ شاعَ أيّام المتصرفيّة نتيجة الاستقرار الذي عمّ جبل لبنان آنذاك، ووضعت له الحرب العالمية الأولى فور اندلاعها حَدّاً مأسوياً. وأعاد اللبنانيون تصحيفه بعد زوال المتصرفيتين وحذفوا منه عبارة "جبل". وقد استوحاه الشاعر العامي أسعد سابا (1914-1972) كي يُطلقه على جريدته "الشعرية اللبنانية السياسيّة والاسبوعية": "مرقد العنزة" التي أسّسها مطلع عام 1937، واستمرّت في الصدور لغاية عام1948. كان مقرها في شارع عبد الوهاب الإنكليزي، ثمن العدد 25 قرشاً لبنانياً، يقول الباحث اللبناني محسن يمين أن تأسيسها جاء في سياق الموجة التي غمرت لبنان بالصحافة الزجليّة بدءاً من عام 1933، مع صدور مجلّة "الزجل اللبناني"، وتعاقب الجرائد والمجلات التي تُعنى بالزجل على الظهور. بحيث كان وقت وصل عددها في خلاله الى ثلاثة وعشرين مطبوعة صحافية زجلية على ما أشار إليه روبير خوري، صاحب مجلّة "صوت الشاعر"، ورئيس تحريرها في كتابه "الزجل اللبناني منابر وأعلام" (منشورات" صوت الشاعر 2003ص 25-26) .

 

كنا نقرأ اسم "مرقد عنزة" في بعض المقالات والسرديات العابرة، التي تؤرخ جوانب من تاريخ الصحافة في لبنان، ولم نكن نلمس ورقها ونتفحص مضمونها ومقالاتها وقصائدها، من إيجابيات باعة الانتيكا والمجلات والصحف القديمة في زمن الطوفان الرقمي، جعلوا من المطبوعات القديمة جواهر تباع على الفايسبوك لمن يسبق إليها، انهم يعيدون لنا جانبا من النوستالجيا والذاكرة المفقود أو انهم يعيدون تدوير حياة سابقة، بطريقة من الطرق يخرجون المكنوزات والمنسيات من المتاحف والمستودعات والمكتبات المهمشة التي يلفها الغبار إلى الأضواء والحياة لبيعها أو الاطلاع عليها من أصحاب الفضول، وربّما بعض المصابين بلوثة الأرشيف والقصص القديمة، فبفضل الصديق سعد في محله الصغير في كليمنصو، استطعنا الحصول على مجموعة من أعداد جريدة "مرقد العنزة"، التي تبدو أشبه بتحفة ورقية تحتاج الى حماية ضمن برواز زجاج، ورقها يكاد يفت بسبب قدمه واهترائه، وليست "مرقد العنزة" مجرد مجلة تخصّ الزجل والقصائد الزجلية، فقد نجد بعض المواقف السياسية والأخبار المسرحية والسينما والمحطات التاريخية مثل حكاية الفنانة النابغة صباح من المراسح وحتى الراديو وكيف استقبلت بحفاوة واعجاب في القاهرة. ونقرأ ملفات دسمة إثر وفاة كل من أسعد الخوري الفغالي (شحرور الوادي)، ورشيد نخلة (أمير الزجل اللبناني). وعدداً خاصاً ثالثاً عن الفنّان صليبا الدويهي، هذا مما رأيناه من بعض الأعداد القليلة.

 

مرقد العنزة

 

وكانت الغاية من إصدار "مرقد العنزة" على ما أوضحه صاحبها ومديرها المسؤول أسعد سابا الذي عرف بـ"بلبل الأرز"، ورئيس التحرير كميل خليفة المعروف بـ"كروان الوادي"، في افتتاحيتهما المشتركة للعدد الأوّل "إعلاء شأن الشعر العامي، وجعله في المستوى اللائق به". واستطاعت المجلة أن تستقطب اسماء كبار الشعراء والأدباء (مثال الياس أبو شبكة وصلاح لبكي وعمر فاخوري ورئيف خوري وفؤاد أفرام البستاني وأسعد السبعلي وميشال طراد وسواهم).

 

وأسعد سابا، من كبار شعراء الزجل. نظم الزجل ونشر الشعر العامي في الدوريات الزجلية مثل "العندليب" و"أرزة لبنان" و"الزجل اللبناني" و"صوت الجبل" و"منجيرة الراعي". من أعضاء "رابطة الزجل اللبناني" (1942)، رئيس "عصبة الشعر اللبناني" المنشأة في 22 نيسان 1950. يقول القاص مارون عبود في كتابه "الشعر العامي"(1968) "إنَّ زجل أسعد سابا ابن عم الشعر لحًّا، وقد يكون ما يقوله هو الشعر العالي لا ما ينظمه الوزَّانون. فزجل أسعد سابا طافح بالألوان، يتأجَّج عاطفة، وهو في صوره أقرب إلى الشعراء الكبار منه إلى الزجَّالين. وفي استطاعتنا أنْ نقول: إنَّ زجل أسعد سابا مدرسة شعرية جديدة، وهو توءمٌ زجليٌّ يناوح توءمًا آخر، هو شعر الشباب الحديث الذي يسمُّونه رمزيًّا.

 

إذا قرأت هذا الديوان رأيت أنَّ شعر أسعد ليس من قلبه فقط، بل هو من قلبه وكبده المقروحة، صور ساذجة طريفة، وألوان زاهية، وألفاظ كالشحنات الكهربائية تولِّد نورًا ونارًا، فمدرسة طراد وسابا تسير مع مدرسة الشعر الحديث جنبًا لجنب، فكأنها تقول لها: شدِّي حيلك لنرى من يسبق إلى ما يسمُّونه اليوم رمزًا"...

 

وفي كتابه "موسوعة أعلام العرب المبدعين في القرن العشرين" يقول الباحث خليل أحمد خليل ينفرد أسعد سابا، بين رواد الشعر الشعبي اللبناني، بالتعبير الثوري وبالبطولي عن تصارع القوى الاجتماعية في القرن التاسع عشر والعشرين. فهو شاعر وطني لبناني، رائد من رواد الزجل، وتطويره في اتجاه القصيدة الحديثة مضموناً، وصولا الى عمله المميز: "مسرحية طانيوس شاهين(منشورات مرقد العنزة - بيروت 1967) والمسرحية لاقت اهتماماً ثقافياً كبيراً، غداة حرب 1967، جعلت الثوريين اللبنانيين يستذكرون بطله (بطلهم) طانيوس شاهين، مؤسس أول عامية لبنانية(انطلياس 1858) وأول جمهورية شعبية في المشرق العربي. إلى أن جمهورية طانيوس شاهين(ما حصل بثورة شاهين، حصل في 14 اذار وفي 17 تشرين)، التي أودت بها الحروب الطائفية، وذهبت في غمارها ثورة الفلاحين على الاقطاع في القرن التاسع عشر، أحياها اسعد سابا بشعر ملحمي الغنائي البطولي، وقدم فيها نموذجاً للعامي اللبناني. حتى في أحد اعداد مجلة "مرقد العنزة" يخصص سابا زاوية لطانيوس شاهين مع صورته بعنوان "طانيوس شاهين يناديكم" ويبدو فيها ثوريا ويدعو إلى الثورة، يقول في المقال المرفق "الى كل فلاح في كسروان

الى كل فلاح في لبنان

الى كل حافظ جميل

توجه "مرقد العنزة"، نداءها هذا: منذ ما يقرب من ماية سنة قام من بينكم واحد حاول أن يرهقه الظلم فلم يفلح، وإذا الإباء ينفخ في اوداجه فيتمرد، وإذا التمرد قوة نفسه وساعده، وإذا هو صوت يطرح فيلتف من حوله كل ناقم وتصخب الثورة "...

 وحماسة أسعد سابا لطانيوس شاهين وثورته أزعجت بعض العائلات الاقطاعية في كسروان، وقد اتهمت شاهين بارتكاب جرائم.

 

مرقد العنزة

 

ولأسعد سابا مكانة مهمة في تاريخ الأغنية اللبنانية، وغنّى له العديد من المغنين والمغنيات ومنهم وديع الصافي في أغنية "وينك تاركني وينك" وغيرها، وصباح "وز عينك"، "هس هس عالسكت"، وفيروز التي غنّت له "مين دلّك" التي تقول في مطلعها: "مين دلّك بالهوى ع بيتنا/ مُرّ النوى بكاس العذاب سقيتنا/ وما ربحنا بعشرتك غير الألم/ حبّيتنا ويا ريت ما حبّيتنا".

 

(*) وللحديث صلة عن الأرشيف وهواة جمع المجلات القديمة.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث