اللوحة بمصطلح النقد الأدبي

فوزي ذبيانالأربعاء 2025/10/15
فالتر بنيامين وملاك بول كلي
ليست قراءت فالتر للوحةبول كلي(الملاك الجديد) إلا تجسيداً لقدرة الفن على مراكمة الكلمات
حجم الخط
مشاركة عبر

ثمة رغبة كانت تحدو الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين بأن يضع مؤلفاً يقوم على محض الاقتباسات. لم يشرح بنيامين أسباب هذه الرغبة بالتحديد إنما فحوى نصه الفلسفي (أو الأدبي) ربما يغني عن الجواب.

 

كل نصّ هو بالعمق عبارة عن تداخل نصوص وكل قول هو استدراج لقول آخر من جهة التبني أو الرفض. من باب اقتفاء أثر رغبة فالتر بنيامين الذي انتحر في العام 1940، سوف تقوم هذه المادة على جملة من الاقتباسات تتعلق بموضوعها من بعيد أو من قريب: اللوحة بمصطلح النقد الأدبي واستطراداً الفلسفي من آن لآن.

 

في كتابه "جماليات الزوال" يخبرنا الناقد الفني الأميركي هارولد روزنبرغ أن العمل الفني – من جهة الدلالة – هو حدث مؤقت على الدوم. فالدلالة في سياق "جماليات الزوال" هي واقعة دائمة التغير والتحوّل والإنبثاق، وجمالية العمل الفني بعامة تكمن تحديداً – بحسب هذا الناقد – في هذا التشظي الدلالي حيث لكل عصر تأويله ولكل متلقّ مآربه في القراءة والتفسير وفي موضعة هذا العمل في هذا الأفق من المعنى أو ذاك. بالتالي أن العمل الفني هو – دلالياً – حدث مؤقّت لا يعرف الثبات... إن المسافة بين اللوحة – كشكل – وتأويلها لا يمكن ضبطها بحال. أما آندريه ريستسلر فيخبرنا في كتابه ذائع الصيت "الجمالية الفوضوية" أن العمل الفني يستمد ديمومته، كواقعة إبداعية، من ذلك الطموح الذي يسوق هذا العمل لأن لا يكون محلّ خضوع لأي شكل من أشكال الإجماع سواء أكان إجماعاً سياسياً أو ثقافياً أو اجتماعياً أو أيديولوجياً بشكل خاص، وهو ما يؤسس من ثم لفورة تلك المصطلحات التي تجهد بغية تعقّب هذا العمل الإبداعي أو ذاك في كل عصر من العصور وعبر كل قارئ من القراء سواء كان هذا القارئ شريد النظريات السائدة أو متقيداً بإحدى تلك النظريات. 

 

وعلى الرغم من تباين الاتجاهات والمشارب بينهما وانطلاقاً من خلفيته الأدبية الصارمة، يعاضد الإيطالي أمبرتو إيكو آندريه ريستسلر عبر تحيّز دلالي يرى في اللوحة نصاً بصرياً (visual text) بالدرجة الأولى وهو نصّ قادر بدوره على إنتاج نصوصاً أخرى وهو ما يضعه إيكو تحت عنوان "التعضيد النصّي" (textual cooperative)، أي أن اللوحة أو العمل الفني بالإجمال هو بمثابة النصّ الزاخر بكم هائل من النصوص، بكم هائل من الكلمات المكتومة خلف الخط واللون، وهو ما يدفع المرء إلى الاستمتاع بملاحقة هذه الفكرة انطلاقاً مما قاله الفيلسوف الألماني جورج غادامير حين تكلّم عن تداخل الآفاق (Fusion of Horizons) حيث أزمنة إنتاج السرد وإنتاج الأعمال الفنية تداخل حكماً أزمنة أبناء العصور الأخرى التي أعقبت ذلك السرد وذلك الإنتاج، وهو تداخل يؤدي حكماً إلى بحر متلاطم من القراءات والتأويلات وإعادة النظر بالعناوين الكبرى حيث المصلح الأدبي والمصطلح الفلسفي يعززان حضور هذا العمل في كل حقبة تاريخية لنكون بالتالي إزاء تشابك في آفاق التاريخ وجريانه بل وانقطاعاته، وكمثال على ذلك، يمكن القول أن المرور فوق المدينة كما بثّ مارك شاغال هذا المرور في لوحة Over the Town في بداية القرن العشرين يختلف جذرياً (هذا المرور) - من جهة الدلالة وإنتاج النصوص – عنه مع بداية القرن الحادي والعشرين وهو عينه ما ينطبق على أجساد إيغون شيلي كما بثّ هذه الأجساد في أعماله الرائعة وفي البال (بالي أنا على الأقل) ذلك الأمر القضائي الذي قضى بسجنه وأيضاً بإحراق إحدى لوحاته بسبب ما "يعتورها من مجون" أخذاً تاريخ ذلك الأمر القضائي بعين الاعتبار(1912) . إن آفاق تلك العين التي تزاحم أعمال شيلي ببداية القرن المنصرم تراها في تداخلها مع عيون ما تلا من عقود محل إحراج وفرار وإن أجساد إيغون شيلي الزمن الراهن هي غير أجساد ذلك الحكم القضائي في العام 1912.

 

لوحة لمارك شاغال
مارك شاغال

 

ربما اللوحة شأنها في ذلك شأن النص الأدبي تتجسس على نفسها عبر جمّ التأويلات التي تخضع لها ولا شك أن للمصطلح الأدبي (أو الفلسفي) في هذا الصدد الدور الأبرز في هذا التواطؤ الرائع بين التجسس على الذات وفعل القراءة بالإجمال، ذلك الفعل الذي يستجدي الكلمات من أجل إزالة الغموض. في كتابه الرائع "حياة الصورة وموتها" يحتفي الفرنسي ريجيس دوبريه "بذلك الغموض الذي يكتنف الصورة والذي يملك تلك القدرة على زحزحة أكثر اليقينيات صلابة وجمود"...أيضاً وأيضاً، إنه فالتر بنيامين الذي انتحر في العام 1940 يسوقني – بمتعة – إلى كل هذه الاقتباسات.

 

ليس للصمت بداية يقول ماكس بيكارد في كتاب "عالم الصمت". وصمت العمل الفني الذي لا بداية له – إسوة بكل صمت – (ذلك "الصمت الثرثار" كما يقول دوبريه) يسوق المصطلح النقدي لأن يتوسّع عبر توسيع دائرة الكلمات. بل ترى هذا الصمت يدفع بالمعجم التقليدي لأن يستنكر ما يستجد في الغالب على كلماته من دلالات من قبل هذا القارئة الحربوق الشيطاني والذي يجيد نعمة التلصص، أو ذاك... تجد حتى المعجم الزاخر بالكلمات محل ذهول حيال ما هو غير متوقّع من دلالات أُسبغتْ على الكلمات، وهو ما استفاض بشرحه الناقد الأميركي روبرت شولتز في "السيمياء والتأويل" حيث الكلام عن ضرورة "الإحالة الاعتباطية" لبعض الكلمات هي واقعة لا بدّ منها لدى التطرّق لهذا العمل الفني \ الأدبي أو ذاك، ومن النافل شقلبة كلمة "اعتباطية" في عبارة شولتز ومدّها بزخم دلالي يناقض كل ما يلازمها تاريخياً من سلبيات. إن الشكل هو في بعض مآربه مولّد هائل للكلمات وليس من باب العبث في هذا السياق أن قال أحدهم (نسيت مين!!): وفي البدء كان الشكل.

 

ثمة بين نقّاد الفن من يسأل عن الأكثر استحواذية على الآخر: العمل الفني أو الكلمات التي تحكي عن هذا العمل؟ لا جواب نهائياً إزاء ذلك الاشتباك القديم بين كل من العنصرين: الكتابة والشكل...الكلمات واللوحة...السطور والتمثال. إلا أن ركون العمل الفني إلى محض هيئته مقارنة بتعدد وتكاثر وتباين الكلمات التي تتطرق إليه يعطي للفن الأولية وهو ما حدا بالبعض للقول إن العمل الفني هو بمثابة اللانهاية المحصورة داخل شكل، داخل خط ولون، وليست تلك الكلمات المتلاطمة التي يثيرها الفن بعامة إلا فرضيات تتأسس على سرديات خاصة بالمتلقين. ولم يكن بول ريكور بمنأى عن هذا التوجه حينما تكلم عن السرديات الكبرى (Grand Narratives) التي تؤسس بنيان النصوص، تلك السرديات الاجتماعية والثقافية والسيكولوجية الصريحة منها أو المكبوتة، الشديدة التماسك أو الهشة ومن الممتع في هذا المحل بالذات أن يجمع المرء ريكور مع الفرنسي ميشال فوكو (وهو أمر يدعوني إليه بنيامين بحزم) الذي يرى في كل تصنيف شكلاً ماكراً من أشكال العنف وفي كل قراءة أحادية شكلاً ساذجاً من أشكال التلقي والفهم. العمل الفني هو بؤرة لا نهاية لها من التأويلات وتفكيك كل ضروب التصنيفات.

 

إن العين إزاء هذا الغائب الحاضر (السرديات الكبرى وتجنّب والتصنيفات) هي من أكثر الأعضاء هشاشة في العلاقة مع اللوحة وليس الاستخفاف ببعض مضامين العين من قبل دايفيد لوبروتون في كتابه "انثروبولوجيا الحواس" سوى تبن لسرديات ريكور، تلك السرديات التي ترى ما يتجاوز محض الشكل، محض الصورة، محض السطح... فعلى الرغم من أننا منغمسون في الوفرة التي لا حدّ لها للرؤية يبقى البصر في هذا العالم، حاسة السطح... كما يقول لوبروتون تحت فصل "من البصر إلى العلم".

 

إن للوحة طريقتها الخاصة في تعيين سياسات الذاكرة وفي رسم حدود عالم الناظر إليها أو قارئها أو ذلك الصامت أمامها بفرح وخشية، بورع وفجور، الأمر سواء... ولا يجب أن يغيب عن الذهن في هذا السياق أن الجذر اليوناني لكلمة Istor لاحقاً History يعني الشاهد أو الرائي. بالتالي، ليست العين هي من تحدّق في اللوحة (وفي العالم بالإجمال) إنما من يحدّق بحق هو تاريخ صاحب العين وذكرياته بما يحمل هذا التاريخ وتلك الذكريات من صمت وصخب، من حب وكره، من حذر واطمئنان ومن كلمات وتأتآت ومن قضم للأظافر وبكاء سري أو في قلب الساحات، كل هذه الأمور هي من تحدّق بحزم وليست العين إلا وسيلة ذلك التحديق.

 

بالعودة إلى الصديق العزيز فالتر بنيامين والذي انتحر عند الحدود الفرنسية الإسبانية خوفاً من أن يقع في أسر جيوش هتلر، بالعودة إلى بنيامين أقول: إن هذا الفيلسوف وقد أدرك فداحة العالم عن ظهر قلب أولى للمجاز الدور الأكبر في معاينة حقيقة هذا العالم الذي يقوم على التشظي والتبعثر والخوف والرعب وهو ما ساقه إلى مقاربة الفن بعامة كمجاز لا بد منه بغية فهم هذا العالم منذ بداياته حتى نشوب الحرب العالمية الثانية التي أودت به إلى الانتحار، وليست قراءته  للوحة بول كلي Angelus Novus (الملاك الجديد) إلا تجسيداً لقدرة الفن على مراكمة الكلمات بغية البوح ورفع الستار عن ما يعتور العالم منذ بداياته من عنف وهلاك. ليس (الملاك الجديد) بالنسبة إلى فالتر بنيامين مجرد لوحة تقتات على نظرات الآخرين إنما هي كما صاغها هذا الفيلسوف في مجمل نصّه بمثابة ال Weltanschauung (world view) وجهة نظر – إذا صحّ التعبير – بكل التاريخ البشري وما يحفل به هذا التاريخ من ملائكة لا تقتات إلا على وعد مضن بالجنة (أرضية كانت أو سماوية) وعد يقوم على محض سفك الدم. تجاوزتْ لوحة بول كلي في المصطلح الفالتر بنياميني حتى عن أن تكون مجرد نص بصري فإذا بنا مع الثنائي بنيامين – كلي إزاء لوحة هي بمثابة Geno-Text...نصّ أولي عن تاريخ العالم ومآلاته، نص يتأسس على الخطوط والألوان لكنه يختزن كم هائل من الكلمات...كلمات أسست لقول فلسفي لم يشهده العالم قبل المنتحر العزيز فالتر بنيامين.

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث