الرواية كأرشيف موازٍٍ: علي الكردي وتدوين الذاكرة السورية

علي سفرالأربعاء 2025/10/15
علي الكردي
حجم الخط
مشاركة عبر

بعد أكثر من نصف قرن، يعود الروائي علي الكردي(*) في روايته "ترانيم العتمة والضوء" الصادرة عن دار ميسلون، إلى تجربة الحلقات الماركسية التي ظهرت في سوريا في سبعينيات القرن الماضي، وأفضت إلى ظهور «رابطة العمل الشيوعي» التي تحولت إلى الحزب المعروف لاحقًا.

 

من الناحية التنظيمية والنظرية، تبدو الحلقات مادة مفهومة بعد أن كُتِبَ عنها من قبل بعض الذين خاضوا تجربتها، لكن ما يقدّمه علي الكردي هنا يبدو للقارئ المهتم برصد السياق الاجتماعي والإنساني مادةً مثيرة وتستحق الاطلاع عليها، حتى وإن جاءت على شكل عمل أدبي، يشبِك بين الشخصيات المتخيَّلة وبين السير الذاتية لناشطين سياسيين يعرفهم الجمهور. لا بل إن سرد الحكاية من خلال الأسماء المسطّرة في الرواية يجعلها أكثر وضوحًا لجهة معرفة التفاصيل التي لا يركّز عليها المؤرخ الذي يتناول التجربة التي جاءت كمقدمة أولية لظهور التنظيم السياسي.

 

يبدأ الروائي حكايته باستعادة صخب الشخصيات وهي تعارك في البحث عن معنى نشاطها في الحلقة، لكن القارئ يطمئن سريعًا حين يجد أن الاشتباك هنا إنسانيٌّ وليس سياسيًّا. فبقدر ما تسعى الشخصيات إلى تلمّس نضجها الفكري، نراها تتعثر في الإنساني. ثمة شبّان يريدون أن ينضجوا وهم يمسكون بأطراف الحلم بعالم أفضل، لكن الأمر يبدو أشبه بتورط غير محسوب النتائج في مواجهة سلطة غاشمة، ولا تراهم في سياق إبادتها للحياة العامة، ولا في سياق الفضاء السياسي في البلد.

 

لكن النضج المبتغى لا يلبث أن يتداعى حين تتكشف اللحظة الحياتية عن رغبات حارة في الحياة والحب، ترتجف بسبب الخوف من تداعيات الاختيار، مع تردّي الأحوال إثر انكشاف النشاط السري وتحوّله إلى هدف للاعتقالات المتتالية.

 

لا تأخذ كتابة علي الكردي القارئ نحو الماضي لتغلق عليه الطريق، بل يتوازى الأمر مع نظرة ملحّة نحو الحاضر؛ إذ يأتي جزء كبير من الحكي من منصة الثورة السورية في عام 2011 وما بعده، حيث يأتي جيل الأبناء ليسأل عن الماضي لعله يجد فيه ما ينفع حاضره المضطرب، وهكذا تصبح العلاقة بين الزمنين بؤرة لتبيّن مصائر الشخصيات والتجارب التي عاشتها وأودت بها وبأحلامها.

 

غلاف

 

لكن السؤال الذي يلحّ على قارئ يعرف شيئًا من تاريخ النضالات السورية ضد نظام الأسد الأب يدور حول الاستعادة ذاتها، أي تجربة الحلقات الماركسية التي هي المادة الرئيسة للشخصيات وأصواتها. 

وعن هذا يجيب علي الكردي ويقول: "ببساطة لأن الحلقات هي حجر الأساس الذي شُيِّد على ضوئه فيما بعد "رابطة العمل الشيوعي"، ومن ثمّ حزب العمل. بالتالي من البديهي، إذا لم يكن الأساس متينًا (وهو برأيي ليس كذلك)، سوف تظهر لاحقًا الآثار السلبية على هذا البناء. من جهتي أرى أن الرواية هي عمل فني، وليست كتابًا نظريًا لدراسة ظاهرة الحلقات الماركسية وأبعادها وخلفياتها وما نجم عنها. لقد اعتبرها البعض في حينه (ظاهرةً موضوعية) فرضها الواقع وقدم مبررات لنشوء هذه الظاهرة، لا سيما في سياق بروز تيار اليسار الجديد في العالم الذي ينتقد الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية. لم يكن هاجسي الغوص في هذا المنحى الذي له مقام آخر غير الرواية، بل تركز اهتمامي على الإضاءة على هموم وأحلام ونوازع وتكوينات بعض الشخصيات التي كانت جزءًا مؤسسًا لهذه الظاهرة. أردت الكتابة عن حكايات بشر من لحم ودم: عاشوا تجارب حب نجح بعضها وفشل بعضها الآخر، عانوا وتألموا وفرحوا ورقصوا. كانت أحلامهم عريضة وضحّوا من أجل تحقيقها، لكن خيبتهم بالنتائج التي آلت إليها التجربة بعد أن غُيِّبوا سنوات طويلة في المعتقل لم تكن قليلة. ثمة نقطة أخرى أود الإشارة إليها — إذا لاحظت — كنت أربط دومًا بين هواجس الشخصيات وبنيتها النفسية وأحلامها وبين الفضاء العام السائد في تلك المرحلة الاجتماعي والسياسي والثقافي. بالتالي فإن مستوى وعي تلك الشخصيات هو ابن تلك المرحلة. إذا عدت إلى فصل "اتساع الدوائر" سوف تجد الكثير من الأمثلة على ما ذهبت إليه".

 

الشخصيات التي يقاربها الروائي هنا تحمل أصوات الواقع وتنقلها بحذافيرها، لا بل إنها تنقل خلاصات التجربة التي انتهت إليها مرادفاتها الواقعية، حيث لا يظهر أن تدرجها في مسيرتها الهشّة كان يجعلها تمضي بالشكل الذي ذهبت إليه في الواقع. كان ثمة جدل إزاء التحول التنظيمي من صيغة الحلقات إلى صيغة الرابطة، لكن هذا الاعتراض لم يكن له أن يكبح جماح أصحاب الدماء الحامية، بل أدى إلى انسحابات شخصية لا يبدو أنها بعيدة عن الحسابات التي يعيشها أو يطرحها الفرد في مواجهة خطر محتمل. ومن هذه الزاوية يظهر أن الاستغراق في الإنساني هو عمود الخيمة هنا: فهؤلاء الشباب إنما أرادوا أن يعيشوا زمنهم بكل تقلباته واحتمالاته، وكان من المهم أن يكونوا أصحاب رأي وألا تضمحلّ رؤاهم في ضجيج الجحفل وهو يعبر في الجغرافيا الصاخبة. 

 

وعلى لسان خليل (إحدى الشخصيات) نقرأ موقفًا من التحول التنظيمي، بعد أول اهتزاز في مواجهة القمع، فيقول: "كانت حادثة حسان هي أول عهدنا بمسائل التخفي والملاحقات الأمنية، الأمر الذي وضعنا وجهًا لوجه أمام خطورة وجدية مشروعنا الذي أسفر لاحقًا عن تداعيات كبرى وأثمانًا باهظة، حددت مصائرنا وحوّلت مسارات حياتنا تحوّلًا جذريًا. لم يكن يخطر في بال أحد من أعضاء الحلقة التي كانت في تركيبتها وبنيتها مهيأة في الحقيقة إلى تشكيل نادٍ اجتماعيّ-ثقافيّ في أحسن الأحوال، وليس أن تكون نواة حزب سياسي يساري ثوري من طراز جديد بحسب النبرة العالية التي كان يطرب لسماعها الرفاق. كان ذلك المفصل بداية الانزلاق؛ ولو أننا في أي بلد آخر يسمح بتأسيس أندية ثقافية أو جمعيات مدنية لما هربنا ربما إلى الأمام، وحملنا على أكتافنا عبء أثقال نأت تحتها أجسادنا الضعيفة، وربما أثمرت تجربتنا نتائج أفضل كثيرًا مما آلت إليه. المشكلة أننا نعيش في بلد قررت سلطته خنق وإذلال أي صوت معارض مهما كان باهتًا، فكيف الحال مع مشروع حالم يطمح إلى الفعل والتغيير؟!"

 

تتكشف اللحظة التي اختارها علي الكردي موضوعًا لروايته عن تأثير "الإرادوية" التي ينتهجها بعض الأفراد ممن يتمتعون بالكاريزما القيادية على وقائع التاريخ، ومن جانب آخر نجد أن "المياه الآسنة" هي ما جرى داخل التجربة على لسان إحدى الشخصيات. الأمر الذي يشير وبتصريح واضح إلى عدم النظر إلى الجانب "المشرق" المحمول على أحلام الشباب النضالية، وهنا يصبح سؤال الروائي عن معمليته في بناء فضاء الشخصيات التي عايش نماذجها الواقعية؛ ولا سيما أن هذه التفاصيل ترد على ألسنة شخصيات الرواية. 

وماذا عن خشية محتملة من أن يكون الرأي النقدي محمولًا على لسانه كسارد؟ 

يجيب علي الكردي: "من الطبيعي أن أطرح وجهة نظر نقدية وإلّا لماذا أكتب؟ ليس المقصود من النقد التجريح أو النيل من بعض الأشخاص، ولا الهدف التغنّي بالتجربة وتجميلها من غير حق. بالمقابل هناك رد غير مباشر على بعض الاتهامات التي حاولت تشويه صورة الحلقات ورابطة العمل الأخلاقية واتهامها من قبل البعض بأنها مخترقة أمنيًا، بل ذهب البعض إلى أنها صنيعة الأجهزة الأمنية. هذا ظلم مجحف. من جهتي حاولت وضع الأمور في سياقها بكل موضوعية، لذلك أشرت لبعض الاختراقات الأمنية، وحين كتبت عن قصص الحب بين بعض الرفيقات والرفاق أظهرت كم كانت تلك العلاقات نظيفة وإنسانية. أساسها الحب والمسؤولية والمشاعر الإنسانية العميقة، وليس الانحلال الأخلاقي كما حاول أن يروج البعض من خارج الظاهرة. أنا أسرد في السياق طبيعة العلاقات الشللية التي كانت سائدة في فترة الحلقات، التي كانت أقرب إلى الصداقات".

 

وفي الإشارة إلى أن التجربة لم تكن محض اجتماعات سياسية ونقاشات نظرية، يذهب الروائي نحو إيلاء المسألة الثقافية بعدًا مهمًا في السياق. وعن هذا يقول علي الكردي: "هذه العلاقات كانت منفتحة على الحوار بلا حدود: حوار في الثقافة والفكر السياسي والدين؛ حوار يشمل العام والخاص بين أشخاص يبحثون عن ذواتهم ويتلمّسون طريقهم نحو المستقبل. لم تكن الرؤية واضحة لهم تمامًا، لذلك فهم يطرحون الأسئلة بحثًا عن إجابات مقنعة. أصابوا قليلًا وأخطأوا كثيرًا. مثلاً، تمّ دمج الحلقات مع بعضها بطريقة سريعة وغير ديمقراطية من حيث التمثيل في الاجتماعات الموسّعة كي تتحول إلى تنظيم الرابطة. من سلبيات هذا الإجراء كشف التنظيم على بعضه، وبدلًا من الحفاظ على السرية، كان يكفي وجود مخبر واحد لاختراق البنية الهشة أساسًا. لقد فعلت التحركات السياسية، وإخفاء بعض المعلومات فعلها. في المحصلة تمّ الإعلان عن تأسيس رابطة العمل الشيوعي كتنظيم، والتحوّل من المهمة الدعوية إلى تحمّل أعباء مهام سياسية لم يكن الحامل التنظيمي مهيأً لها. فيما بعد فعلاً جرت مياه آسنة كثيرة مع تتالي حملات الاعتقال والملاحقة الأمنية وظروف العمل السرّي القاسية. تحت هذا الضغط تغيرت المعايير، وساد المنطق التبريري للتغطية على الأخطاء والتجاوزات. بمعنى آخر، لم تكن الصورة الفعلية كما رُوِّجَ لها".

 

وعن سؤال يخطر في بال القارئ وهو يخوض في تقلبات السرد بين الحياتي والسياسي عن ترك التفصيل ترد على ألسنة شخصيات الرواية، يقول: "هذا خيار فني محض؛ لأنه يتيح للكاتب السارد المتخفّي خلف الشخصيات مساحة أوسع ويساعد، في ظني، على بناء الشخصيات بشكل أفضل. ويتركها تعبّر عن مكنوناتها ووجهات نظرها من زوايا مختلفة دون إملاء عليها من قبل الكاتب. لا أعرف حقيقةً إن نجحت في التعبير عن وجهات النظر المتنوعة الموجودة في الواقع؛ فعلاً أتمنى ذلك. أما لماذا لم يكن السرد على لساني الشخصي؟ وهل خشيت من ذلك؟ الجواب: أبداً؛ هو خيار فني كما قلت. في نهاية المطاف، بوصفي كاتبًا للنص أتحمّل كامل المسؤولية عمّا ورد فيه بغض النظر عن شكله الفني".

 

من هذا المنظور، لا تعود «ترانيم العتمة والضوء» مجرد استعادة أدبية لمرحلة غابرة، بل وثيقة حسّاسة عن جيلٍ ومرحلةٍ ومصير. إنها شكل من أشكال التدوين الموازي يضيف إلى لوحة التاريخ السوري الحديث قطعةً جديدة كانت مفقودة أو غير مكتملة. فالتاريخ، كما يقدّمه صاحب الرواية، لا يُكتب فقط في دفاتر المؤرخين أو مذكرات القادة، بل أيضًا في وجوه أولئك الذين حملوا الحلم وخذلتهم الوقائع. بهذا المعنى، تنفتح الرواية على وظيفة أعمق من السرد؛ إذ تردّ الاعتبار للتجربة الفردية بوصفها جزءًا من الذاكرة الجمعية. ومن خلال أصوات شخصياته يعيد الكاتب تركيب البازل الكبير للحياة السياسية والثقافية في سوريا، حيث تتجاور المأساة مع الأمل، والعتمة مع الضوء. إنها محاولة للقول إن ما لم يُدوَّن بعد لا يزال يطلب كلمته الأخيرة، وأن الرواية قادرة أحيانًا على أن تكون ذاكرة وطن أكثر صدقًا من الأرشيف.

 

(*) علي الكردي، كاتب وصحافي فلسطيني سوري، من مواليد 1953، سجين سياسي سابق، صدرت له مجموعة قصصية بعنوان "موكب البط البري"، ورواية بعنوان "قصر شمعايا" العام 2010 تُرجمت إلى الألمانية من قبل لاريسا بندر، وصدرت عن مؤسسة فالشتاين.

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث