هل هناك شعب في سوريا؟

نوار جبورالثلاثاء 2025/10/14
حرب.jpg
حرب تشرين التي ألغت السلطة السورية الجديدة الاحتفال بذكراها من جداول الأعياد الرسمية
حجم الخط
مشاركة عبر

أصدر الرئيس أحمد الشرع قائمةً بالأعياد الرسمية، واستبعد منها عيد الشهداء (6 أيار) وذكرى حرب تشرين (6 تشرين الأول) التي كان النظام السابق يسمّيها "حرب تشرين التحريرية". أثار القرار تساؤلاتٍ حول ملاءمته لمرحلة انتقالية، يُفترض أن تقتصر تشريعاتها على الضروري والعاجل. فالأعياد ليست جدولًا للعطلات؛ إنها سياسة ذاكرة. ولهذا لا يكفي تعميم إداري؛ بل يلزم مسار تشاركيّ وجلسات استماع ومذكّرات "أسباب موجبة".

 

وجاءت الصدمة الأكبر مع إلغاء السادس من أيار. فهذا اليوم يحمل سردية يصعب التخلّي عنها؛ لحظةٌ شكّلت منبعًا للسردية الوطنية، ورمزًا غير منقسم جمع في وقت واحد ذاكرة شهداء العهد العثماني وبزوغ وعيٍ مجتمعي–سياسي مبكّر، سابق على الانقسامات الحزبية والطائفية. وفقًا لمنطق الذاكرة الجمعية، لم يولَد السادس من أيار في منشور رسمي؛ بل في أطر اجتماعية صنعتها المدارس والساحات والعائلات.

 

حين حُذف العيد، بدا الأمر أبعد من تعديل تقني في جدول العطل، وأقرب إلى محاولة لإعادة برمجة الذاكرة العامة بلا تفويض اجتماعي. فشهداء السادس من أيار ارتبطوا بولادة الحداثة السورية وبالتحوّل نحو المؤسّسة: المدرسة، التقويم الرسمي، واللغة المعيارية. ومع الزمن، صار هذا اليوم تطابقًا نادرًا بين الدولة والمجتمع ونُخبه، وتحول إلى جزء من جماليات الفضاء العام بعد الاستعمار: أرشيفٌ حيّ للذاكرة احتفظت به المدرسة، وساحة المرجة، وساحة الشهداء. قطع السلسلة الطقسية يوقف تدفّق الطاقة العاطفية التي غذّت تضامنًا طويل الأمد حول 6 أيار.

 

إن قيمة تلك اللحظة ليست مجرّد سرد؛ بل ركيزة لِهُوية سورية تعدّدية حيث يتداخل المسلم والمسيحي، الكردي والعربي، القومي واليساري، في سرديةٍ لا يحتكرها أحد. عيد الشهداء لم يكن أداة سيطرة رمزية، ولا بطاقة سياسية في يد سلطة؛ كان ذاكرةً جريحة أنتجتها لحظة أخلاقية جامعة. لذلك لم تكن سوريا بحاجة إلى إلغائه، لأن ما يجمع لا يُمحى، وما يُراجع يُراجع معًا.

 

حرب تشرين
حرب تشرين

 

في ما يخص حرب تشرين، هناك إشكالية كبرى: كيف يُدار التذكّر والنسيان. فالنظام السوري الجديد لم يحرص على التفريق بين العابر والخاص بسلطة الأسد، وما يتجاوزها. الدولة لم تكن يومًا المالك الحصري لذاكرة الحرب؛ بل إن المجتمعات المحلية، الأُسر، أهالي الضحايا، الشهادات الشفوية، وحتى التجارب الفردية الهامسة، ساهمت جميعها في صياغة ذكرى تتجاوز سردية النظام. وإن كان عيد الشهداء يخص الثلث الأول من القرن العشرين؛ فإن حرب تشرين ما زالت قريبة، حاضرة بثقلها ورمزيتها في الذاكرة السورية والمصرية معًا.

 

صحيح أن عشر سنوات سبقت الحرب كانت بائسة ومأسوية تحت حكم "البعث": جيش بلا كفاءة، مستنقع من التصفيات والولاءات الطائفية، جهاز عسكري مهترئ من الداخل، أُقصي فيه الضباط السُنة، واعتُقل الآلاف منهم تحت شعار التحصين الأمني، لكن ذلك كله لم يمنع ولادة لحظة شعورية وطنية عابرة للطائفة والولاء.

 

كثيرون تذكّروا الحرب بوصفها لحظة نادرة شعروا فيها أنهم يقاتلون من أجل الأرض، من أجل شيء أوسع من النظام، وأعمق من الطائفة. جيلٌ كامل شارك أو تابع، وعايش ما يشبه الإجماع العاطفي حول لحظة وطنية خالصة. صحيح أن حافظ الأسد استغل الحرب وبنى على سرديتها، لكن هذه السردية ضد إسرائيل لم تكن السردية الوحيدة. فهناك سرد آخر، "تاريخ من تحت"، يمتد بين أصوات الجنود، أمهات القتلى، الصمت المتراكم، والمجتمعات التي صدّقت القتال لا السلطة. فساد السلطة والدولة والجيش لا يُفسد البذور الأخلاقية لهؤلاء الذين فقدوا حياتهم بصدق، ولا لمن قاتلوا وهم يظنون أن المعركة من أجلهم. 

 

هناك في الحقيقة تاريخان لسوريا:

تاريخ رسميّ يُعاد إنتاجه من فوق، وتاريخ حيّ ينتقل شفويًا، يتسرّب من الصور والمرويات والتجارب. المؤلم في هذا كلّه أنّ الناس لم يفهموا — ولن يفهموا — لماذا تتعامل السلطة مع هذه الذاكرة كأنّها أداة تخصّها وحدها لتلغيها اجتماعيًا. نعم، النظام الأسدي كاذب مراوغ مُخادع أيديولوجيًا؛ لكنه كذبٌ آمن به كثيرون، قاتلوا عبره وخسروا عبره، وفي الوقت نفسه أرادوا الأرض لا النظام. من هنا جاء خطأ النظام السوري الجديد: أنّه لم يرَ الأرض في الحرب.

 

لقد وضعت السلطة السورية الحالية، حرب تشرين في إطارٍ ضيّق: الزعيم/الدولة/الهيبة، بدلاً من الأرض/الكرامة/الحداد. لم تُترك للناس فرصة اختيار الأرض كإطار للسرد؛ المكان/التربة، لا الصورة المعلّقة على الحائط وفي الشارع وفي كتب المدرسة. صارت حرب تشرين تُعرض تحت ظلّ الأسد: استعراضُ مواجهةٍ مع الأسد ونسيانٌ للشعب. وما كان يحتاجه العيد هو تحرير معناه، وإعطاءُ الأهالي والأحفاد حقّ السرد، لا محو تاريخ الذكرى كلّيًا لأنّ عداءنا مع الأسد مستمر. نغيّر القصة، لا اليوم. نعيد الإطار إلى الأرض، لا إلى الصورة.

 

ذكرى الشهداء

 

العيدان وقسوة الممارسة

السلطة الانتقالية، حين ألغت العيدَين، لم تفعل ذلك من باب النسيان؛ بل من باب التحكّم: كأنّها تقول إنّ حتى الذكرى التي لم نُنشئها يجب أن تمرّ عبرنا كي نعترف بها. لم يكن الإلغاء "مجاملةً للأتراك" أو تناغمًا مع العدوّ الإسرائيلي فحسب؛ بل إشارة إلى دخول زمن تُكتب فيه الهوية بأيدي من يملكون القدرة على القطع مع مَن عاشوها.

 

هنا تكمن المشكلة: ليس في القرار وحده؛ بل في انقطاع السرد. السلطة لا تواصل سردًا وطنيًا سابقًا عليها؛ بل تُعيد إنتاج ذاكرة مختلَقة مفصولة عن مشاعر الناس وتاريخهم، ثم تطلب منهم التصفيق وضرورة أن لا يملكوا أي قدرة على الاعتراض. الذاكرة ليست حكرًا لسلطة، وعلى أيّة سلطة أن تقول للناس: "نريد أن نُغيّر معكم"، لا من فوق، خصوصًا وهي غير منتخبة.

 

كانت ممكنة إعادة تأطير العيد، بدلاً من شطبه: يومٌ لضحايا الأرض السورية يحرّرنا من سردية حافظ الأسد، ويجعل من حرب تشرين درسًا في القدرة والحدود، لحظة تآلُفٍ مجتمعي ضدّ عدوّ على الأرض، لا ميثولوجيا زعيم. الأخطر أنّ الحذف يسلب السوريين فرصة اتحادٍ ممكن لذكرياتهم الجامعة لتجاوز حربٍ أهلية طاحنة، كما يمنع الجميع من المشاركة في صياغة الطقوس والمشاعر.

 

لدى السلطة شعورٌ بأن سرديتها الخاصة هي لغة كلّ ذكرى ممكنة، وتنسى أنّ ذكرى مثل النوروز (العيد الكردي)، هي ذكرى شعبٍ وأطفالٍ ومدارسٍ وغناءٍ ومجتمع. لغة الذكرى لا تحتكرها الدولة. نحن نتكلّمها لأننا تلقّيناها اجتماعيًا قبل أيّ مرسوم. والمعيار العادل لأيّ طقسٍ تذكاريّ بسيط: مَن الذي يُسمَع ويُرى فيه حقًا؟ إن ظلّ الصوت واحدًا والمشهد واحدًا، فلن تتغيّر الذكرى ولو تغيّر القرار الرسمي. أمّا تجنّب تواريخ حسّاسة، مثل النوروز أو يوم انتهاء الحرب الأهلية، أو افتراض أن هناك حرباً أهلية قد تجاوزناها، هذا مشكلة في حدّ ذاته، لأنّه يرسّخ تفضيل ذاكرة على أخرى. وليس صحيحًا أنّ عدم اعتراف السلطة بمناسبةٍ، رسميًا، يُجدي نفعًا. فمحتوى الذكرى لن يكون ورقيًا أبدًا؛ محتواها اجتماعيّ وحسّيّ خالص، يتشكّل في الناس وأماكنهم، قبل أن يُسطَّر في جداول الدولة.

 

الحلّ المؤسّسي واضح: إنشاء هيئة مستقلة للذاكرة، تُنظّم الاعتراف والتعدّدية والشفافية عبر مسارٍ تشاركي، وأسباب موجبة معلنة، جلسات استماع، نشر محاضر وتحديد المعايير والطقوس بما يضمن شمولها الجميع. عندها فقط تصبح الذكرى مِلكًا عامًا، لا سوقًا تختار منها السلطة ما تريد. السؤال هو: هل هناك شعب يريد أي أحد أن يستمع لسرديته؟

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث