بعد غيابٍ متعمّدٍ وجفاءٍ جارحٍ، تلاه رحيلٌ صامتٌ مهيب، أطَلَّ زياد الرحباني على الموسيقى العربيّة في "ما بتنترك وحدك"-غناء الفنانة اللبنانيّة كارول سماحة، معاندًا عزلته الأبديّة هذه المرّة. العمل الذي كتبه زياد ولحّنه ووزّعه، وأخرجته إلى المستمعين حنجرةٌ رحبانيةُ النشأة، جاء افتتاحيّةً لسلسلةٍ من الأعمال المنتظرة التي أنجزها في الخفاء، بانتظار لحظةٍ مناسبةٍ باغتها الموت. ذلك الموت الذي بدا، منذ البداية، هشًّا ومفعمًا بالحضور في آن، كيف لا، وزياد هو المبدع الذي صنعته التناقضات، فعاش بين حضورٍ يُخفيه وغيابٍ يُفشيه.
بدا واضحًا في العمل أنّ العاقل في زياد قد كسب رهانه على المجنون. فالمشروع، لم يحمل ابتكاراً فنيّاً متفلّتًا، بقدر ما أفصح عن عبقريّةٍ ماكرةٍ وعقلانيّةٍ، أعادت إلى أذهان المستمعين سلسلةً من أعماله السابقة مثل "شو بخاف" و"في أمل" وغيرها. التوازن كان السمة الأبرز: بين شرقيّة المغنى وعولمة التوزيع، نسج زياد حوارًا هادئًا، وترك المجال لصوت كارول، الذي لطالما نال استحسانه، ليكون نقطة التقاء بين الكلمة واللحن.
موسيقياً، زياد "ما بينترك وحده... بيروح" من الجاز إلى اللاتين برشاقةٍ وعفويّة طفلٍ لا يخشى التعثّر على سلّم نهوند «دو»، الذي شكّل أرضيّةً خصبةً تتناوب عليها المساحات الجازيّة والجمل الشرقيّة في انسجامٍ لا يخلو من الدهشة. هذا المقام تحديدًا هو ملعب زياد المفضّل، وجسره النغميّ الذي يجعل عناق الإشباع النغمي الشرقي بالهارموني الغربي ممكنًا وأخاذًا، مسارٌ رسّخه مرارًا في العديد من أعمال الفيروزيّة.
أمّا التوزيع، فهو "زيادي" كلاسيكي، يبدو اعتيادياً للوهلة الأولى ثم ينجلي عمقه استماعاً بعد آخر وتتكشف مساراته النغميّة والهارمونيّة الغنيّة، التي لم تتمرد على اللحن ولا على صوت كارول. ظلّ زياد محافظاً على الانسجام التام بين جميع العناصر، ولم يُشعر كعادته، المستمع العربي باغتراب ثقافيّ، فحنكته وموسوعيّته تتيح له الانغماس في القوالب العالميّة دون أن يفقد جذوره الشرقية، والواقع أنّ زياد قد تسيّد تهجين الموسيقى الشرقيّة بأسلوبه هذا طويلاً، وهو في هذا العمل لم يحمل إلينا أيّ طفرةٍ فنيّةٍ جديدة.
على صعيد الكلمة، لجأ الرحباني الى اللهجة المحكيّة اليوميّة، فقدم مونولوجاً متأملاً، شائعاً في عالمه الغنائيّ، حيث تجلّت فجيعة الفقد في حوار داخلي متماسك لا ينهار فيه المحب أمام الفراغ بل ينصهر معه. واللافت في نصّه كان البنية الدائريّة التي تعيد المعنى إلى نتيجته ذاتها؛ إذ يختتم مقطعًا بالـ"الباب المفتوح"، ثم الآخر بالـ"الخط المفتوح"، وأخيرًا بالـ"الجرح المفتوح"، ليخلق إحساسًا دائمًا بلامبالاة الآخر وتوارد الغياب والحضور وسط فراغٍ مشحون بالمعاني.
النص ساخرٌ وحزين في آن واحد، متكامل مع اللحن، يفكّك فيه زياد العاطفة بإتقان، ويكشف هشاشة الإنسان الحديث، ذاك الذي يملك كل وسائل اللقاء، لكنه يظل عاجزًا عن التواصل الحقيقي مع الآخر. والواقع أنّ نصّ زياد هو ظلّ لعمقٍ آخر، يعلن عبره كما في الكثير من أعماله سقوط اللغة أمام الشعور الإنساني، وهذا يفسّره استعانته بالكلمة البسيطة. الإنسان في عالمه جرحٌ مفتوح على احتمالات يصعب حصرها، يتخبّط بين رحيل متردّدٍ وعودة هشّة، ويحكم على نفسه بين الحالتين بالوحدة، وهي صورةٌ تشبهه الى حد بعيد.
عموماً، لا يتبدّى الحزن عند زياد كحالة انفعاليّةٍ مباشرة، لا بكاء صافياً ولا غضب صارخًا، بل كطيفٍ شعوريٍّ متحوّل، يُترجم في البناء النغمي بالتوازي مع النص. إنّه حزن ناعم، مشغولٌ بتأن، يظهر في مسارات التوزيع، وفي الانزلاقات المقاميّة الدقيقة التي تمنح الجمل طابعًا تأمليًّا يجاور الانتظار من دون أن يغرق فيه. ولعلّ هذا الحزن المتماسك هو أحد وجوه الأمل عنده، إذ يخرج المستمع من العمل بدفقٍ شعوريٍّ مزدوج، يمزج الطمأنينة بالخوف، والعودة بالهجران. انّه حزن زياد كما نعرفه: عبثيّ ومبتسم، يتخفّى في جُملٍ موسيقيّةٍ متقَنة، وفي كلماتٍ تقول كلَّ شيء حين تبدو وكأنها لا تعني شيئًا.
في تقديمها للعمل، لم تخرج كارول سماحة عن فلسفة زياد هذه، ورغم أنّها تمتاز بمساحة صوتية واسعة وأداء مسرحي نادر، طوّعت قدراتها بما يتلاءم وروحيّة العمل، فبدا غناؤها حساسًا وبسيطًا، امتداداً طبيعياًّ للحن، انساب في التوزيع واستمدّ منه، الأمر الذي منح الأغنية عمقها الطبيعي بلا مبالغةٍ شعوريّة. وقد تجاوز هذا التوّجه الغناء إلى الأداء التمثيلي، حيث منح الفيديو كليب المساحة للموسيقى والكلمة والغناء، من دون اللجوء إلى الاستعراض البصري الذي تتفرد به أعمال كارول السابقة، حيث استعاضت عن الإبهار الإخراجي بما هو أكثر جذبًا: حضور زياد.
هكذا أطل زياد في "ما بتنترك وحدك" من عليائه الغارقة في صمتٍ كثيف، علينا نحن العالقين في مستنقع فني مقزّز، فأَدهش. لم يتمادَ في غيابه هذه المرّة كما جرت العادة، بل وضعنا مجدداً أمام تساؤلات وجوديّة وفنيّة محرجة، في طليعتها سؤال مُلّحّ: كيف يطل زياد من "موته ومستحيله" جاعلاً الإبداع ممكناً الى هذا الحد، فيما نصرف نحن "الممكن" وأموالنا على إنتاجاتٍ هشّة، كفقاقيع الهواء، تصوّر الإبداع الأصيل كأنه ضربٌ من ضروب المستحيل؟
