كتاب إبراهيم ابوهشهش "ديك مسافر على جدار" الصادر عن دار "الشروق" في الأردن، عمل صغير من حيث الحجم، يندرج في إطار تسجيل تفاصيل فلسطينية من زمن الاحتلال الإسرائيلي، وتدوين ما يشبه اليوميات المتناثرة عبر فترات زمنية متباعدة من ذاكرة لا تزال تحتفظ بخصوبتها، واعية لكل ما حصل منذ بدايات تشكلها، مترعة بصور طازجة حارة عن الحياة والناس والكائنات في فلسطين.
عمل بأسلوب قصصي كرسه الكاتب لنبش الذاكرة، وتفريغ صور عدة عقود من تاريخ مناطق فلسطينية، بعين الطفل الذي يرى ما حوله، ويحاول أن يفهم ويفسر ويدرك أسرار وأسباب، ما يحصل في البيئة العائلية، وما يحيط بها، ضمن المدرسة والقرية، في القرابات والمعارف والتجارب الذاتية، التي تمتد إلى القرى والمدن المجاورة لمسقط رأسه في مدينة الخليل.
عمل يمكن أن يفرغ منه القارئ في جلسة أو جلستين، نظرا لصغر حجمه من جهة في 120 صفحة من الحجم المتوسط، ومن جهة ثانية لما يمتاز به أسلوبيه سهلة ممتنعة، وسلاسة في النصوص، وحرفية في بناء الشخصيات، ورسم إطار للموضوعات التي تناولتها، وبالإضافة إلى ذلك يتجنب أبو هشهش التعقيد والتحليل والاستنتاجات، ويترك للحكاية أن تأخذ مجراها ببساطة، في حديث عن كائنات وأشياء عايشها كل منا، لكن في مكان آخر ومن زاوية مختلفة، ووفق ظرفه الخاص.
من يقرأ العمل يقع في التباس التفريق بين القصة القصيرة، والسيرة القصصية الذاتية، لأن كل حكايات الكتاب تسجل وتؤرخ لحوادث وتفاصيل حصلت له، أو أنه شريك فيها بطريقة أو أخرى، إلا أنه في نهاية المطاف لا يهم التوصيف نهائيا لأن النص يرتبط بالنص، والفكرة تتبع لما سبقها، أو ما يأتي بعدها، ويمكن أن يكون كل منهما على انفراد، أو المزج بينهما معه، في وسعنا أن نقرأ الكتاب كمجموعة قصصية مكتملة الأركان، تذكرنا في اجوائها ولقطاتها واحالتها بعوالم القاص السوري زكريا تامر، أو حتى قراءة النصوص منفصلة عن بعضها البعض كحالات ولوحات ومشاهد تضيء على تفاصيل، تجعل القارئ يفكر بما وراء كل منها، ويخلص منها إلى الاستنتاج المناسب، الذي لا يخرج في جميع الأحوال عن إطار مشهد فلسطيني مر أمام الكاتب، الذي قرأه بعين يتقاطع فيها الحكواتي بالمسرحي والسينمائي، وحتى المصور، حيث يمكن تأويل بعض الحكايات والمشاهد في صور فوتوغرافية للبيئة الفلسطينية في وقت محدد.
ثمة خيط جامع في تفاصيل العمل يتمثل في أنها موجعة، ومحفورة بقوة في ذاكرة الكاتب إلى حد يبدو فيه أنه حفظها في مكان أمين كي لا تتسرب أو تشيخ، تبدو طازجة جدا، كأن الكاتب يتحدث عن أحداث عاشها منذ فترة قريبة، وفي ذلك شهادة لحساسية العين التي التقطت تلك الصور، وللخيال الذي اخترنها ونماها، واشتغل عليها ليعيد انتاجها في عمل فني حي.
العمل يصدر عن ذاكرة غير طوعية تجعل الماضي قريب المنال وذا طعم خاص ورائحة، ينبض بالحياة، لأن الذاكرة هنا نتاج أحزان وآلام وتباريح ذاتية ومرتبطة بأحاسيس وانفعالات، تقوم على سرد يعتمد على توظيف الحكاية ضمن الحكاية، التي لا يوجد فيها أبطال، بل شخصيات تتحرك على المسرح، ويتسم بالجمل الاعتراضية والاسترجاعات والتقاطعات، ويقوم النسيج المتين للنص، على التوازي والتعارض بين زمن مر، وآخر يستمر حاملا كل أثقاله، ما يوحي بأن جوا من الاضطراب والحيرة والتوجس يهيمن على ذاكرة الراوي، الذي يشعر بأن الزمن يفلت من يديه، في حين أن الموت يتربص بكل كائنات العمل، البشر والحيوان والبيئة.
ذاكرة باردة حينما تستعيد التفاصيل، وحارة جدا عندما تعيشها، حسب ما حصل لمكان ولادة الكاتب الذي احتلته إسرائيل عام 1967، ولم يعد مكانه الخاص له، بل صار مجازا يحضر في توصيف شخصيات العمل بشتى تلويناتها وردود أفعالها ومستوياتها وتعدد أصواتها، وفي كل حكاية يبدو مدى تدخل الكاتب في تحديد جوانب الشخصية وسرد تفاصيل حياتها وتطلعاتها، وإلى أي حدود يمكن أن يتوغل إلى العالم الجواني للشخصية عن طريق بعض العلامات والأحداث والشهادات، وتحويل تلك الأحداث إلى ما يشبه سيرة للراوي والمكان في واقت واحد، بواسطة نص مشغول بتأن وصبر شديدين، ومكتوب بلغة موزونة بعناية، خالية من الحشو والتفاصيل الزائدة التي تقلل من بريق العمل، وتسيء إلى حساسيته الخاصة.
