يعود تأسيس مقهى "ريش" إلى عام 1908 في عمارةٍ يملكها محمد أفندي الجوهري، وقد أنشئ على أنقاض قصر محمد علي توفيق بعد انتقاله إلى منطقة المنيل. وأول من أسسه كان رجل أعمالٍ نمساوي، وقد باعه لاحقًا إلى الفرنسي هنري ريسينييه الذي منح المكان نكهةً أوروبيةً جعلته أوّلَ المقاهي الإفرنجية في القاهرة. ويُعتقد أنّ ريسينييه جاء بالاسم عام 1914 من لغته الفرنسية بمعنى "الفاخر" أو المنتمي إلى الطبقة العليا، وربما استمدّ اسمَه من اسم المقهى الباريسي الشهير في ذلك العصر "غراند کافیه ریش"، ليتشابه بهذا الاسم مع أشهر مقاهي باريس والذي احتضن أشهر شخصيات الثقافة والفكر الفرنسيين على غرار ألكسندر دوما وإميل زولا والرسام پول غوستاڤ دوريه.
ونجح "ريش" المصري في الحفاظ على سمات المقاهي بطابعها الأوروبي الغربي الفرنسي. وساعده على الرواج الذي حظي به وقوعُه في قلب المنطقة الحيوية في وسط القاهرة، التي تضمّ مباني فخمة ومهمة أنشئت في بداية القرن العشرين بخبرات معمارية أوروبية، وكان يُنظر إليها على أنها "باريس التي تُطلّ على النيل". تعددت جنسيات أصحابه من فرنسيين ويونانيين ومصريين ومجريين ما يعطينا إشارةً كيف كانت القاهرة مدينةً كوزموبوليتانية. وتعاقب على إدارته العديد من الشخصيات ذوي الجنسيات المتباينة، والذين نتعرف إليهم من خلال التسلسل الآتي:
برنارد ستينبرغ (شتاينبرع)، من 1908 إلى 1913، مجَري الجنسية.
هنرى ريسينييه من 1914 إلى 1916، فرنسي الجنسية.
میشیل نقولا بوليتس 1916 - 1932 يوناني الجنسية، انتقلت إليه ملكية المقهى فى بداية أيار/ مايو 1916.
واسيلي مانولاكيس من 1932 - 1942، يوناني الجنسية، وهو المالك الرابع للمقهى.
جورج واسيلي 1942 - 1960، إنكليزي/ يوناني.
أخيرًا عائلة المالك المصري عبدالملاك ميخائيل صليب، وهو أول مصري يدير مقهى ريش، تم تعاقب عليه كلٌّ من ولديه ميشيل ومجدي.
"ريش" والفنّ
يؤكد كتاب ميسون صقر أنّ قصة "ريش" مع الفنّ بدأت عندما اشترى اليوناني بوليتس المقهى من صاحبه الفرنسي ريسينييه عام 1916. كان بوليتس محبًّا للآداب والفنون، بل وصاحب خبرة في إدارة النشاط الفنّي بحكم إدارته لمسرح الحمراء بالأزبكية، فقرر إدخال تعديلات على المقهى ليدخل الموسيقى، فصار يمتدّ من مكانه الحالي حتى ميدان سليمان باشا (طلعت حرب) بحديقةٍ واسعة ضمّت "تياترو" وكشكًا للموسيقى. من هنا بدأ النشاط الفني لمقهى "ريش". وكانت هناك فرقة تعزف الموسيقى الكلاسيكية والعسكرية كلّ يوم استمرّت حتى عام 1919، وقد تحقق هذا الإنجاز بعد صراع طويل مع بيروقراطية الاحتلال الإنكليزي.
منذ ذلك الحين أصبح لـ"ريش" بُعدٌ ثقافي وفنّي ملحوظ، فتحوّل من مجرد مقهى أرستقراطي غربي، إلى مكان حميم يتجمع فيه أبناء الطبقة الأرستقراطية والفنّانون والمثقفون الأجانب، ليصبح ملتقًى فنيًّا ذائع الصيت يحفل بالعروض المصرية والأجنبية. وقد عُزفت فيه الأعمال الموسيقية الكلاسيكية، ثم تدفقت الفرقُ الشعبية. وتناوب على مسرح مقهى "ريش" الفنانون المصريون ومشاهير الطرب منهم: صالح عبد الحي، وعلي عبد الباري، ومحمد السبع، وأحمد إدريس، ثم منيرة المهدية، كما مثلت فيه روز اليوسف مع المخرج عزيز عيد. وشهد بدايات ظهور أم كلثوم، إذ أحيت حفلاً في المقهى عام 1923 وكان ثمن التذكرة 15 قرشًا، بعدما سبقها أستاذها الشيخ أبو العلا محمد. وعندما نتصفح عدد 30 أيار/ مايو 1923 من جريدة "المقطم" نجد الإعلان الآتي: "تياترو كافيه ريش ـ تطرب الجمهور يوم الخميس مساء 31 مايو بلبلة مصر صاحبة الصوت الرخيم الآنسة أم كلثوم. هلمّوا واحجزوا محلّاتكم الآن ـ كرسي مخصوص 15 قرشًا ودخول عمومي 10 قروش".
وأُطلقت من "ريش" أول نقابة للموسيقيين خلال فترة الأربعينيات، وذلك بعد أن احتشد عددٌ كبيرٌ ممّن يعملون في مجالَي الموسيقى والغناء داخل المقهى من أجل إيجاد طريقة لحلّ مشكلاتهم المهنية المتفاقمة، وكان على رأس المجتمّعين أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، ونتج من هذا التجمع الاتفاق على إنشاء أول نقابة للموسيقيين في مصر، وانتُخبت أم كلثوم أول نقيبةٍ لها.
"تثير الأماكن فكرةَ الانتماء"، من هذا المنطلق تُقلّب ميسون صقر صفات تاريخ المقهى، وتتفرّس في وجوه مرتاديه. تقول: "وأنت تجلس إلى إحدى الطاولات في مقهى ريش، ستجد نفسك محاطًا بعشرات الصور لأهل الثقافة والفكر والفن الذين كان معظمهم من مرتادي المكان طوال تاريخه". تتأمّل صورة نجيب محفوظ، وكانت له صورةٌ أخرى كبيرة تنتصب في الأعلى مكتوبٌ في أعلاها "نجيب محفوظ – 1988"، مع إهداءٍ بخطّ يده "تحياتي لمقهى ريش وأهله، باقين وراحلين 10/3/1989". إضافةً إلى صورٍ كثيرة تشكِّل جدارًا آخرَ للمقهى بحجمٍ معيّن؛ للشاعرين فؤاد حداد وصلاح جاهين، ولشيخ القصة يوسف إدريس، والملحّن رياض السنباطي والممثل نجيب الريحاني ويوسف وهبي وأمل دنقل وصالح جودت، ومن الممثلين أيضًا: عبد المنعم إبراهيم وتوفيق الدقن ومحمود المليجي وأنور وجدي وإسماعيل ياسين. تتوسط هذه الصور الفوتوغرافية رسومٌ كاريكاتورية لرسّام نسيَ أن يرسم نفسه في زحمة انشغاله بالآخرين رسمًا. كان يمزج ملامحَ الوجه لصاحب الصورة بملامح الشكل الذي يتخيّله، كجسم طائرٍ أو حيوان. رسَمَ توفيق الحكيم، كتبَ أسفل اللوحة "عصفور من الشرق"، والمعروف أنّ "عصفور من الشرق" هي إحدى روايات الحكيم. وهو رسَمه على هيئة عصفورٍ له ملامح وجهه. يوسف السباعي رسَمَه بجسد سمكة. إبراهيم ناجي بجسد سنجاب. طه حسين بجسد كروان ثم كتب تحت الرسم "دماء الكروان"، والمعروف أيضًا أنّ لطه حسين رواية بعنوان "دعاء الكروان" لكنه حين عَبّر عنه بالرسم أبدل العين ميماً. أم كلثوم رسمها بجسد طاووس. هذه الصور تعطي للمكان طابعه الذي له تجليات عديدة، فعودةٌ إلى زمنٍ جميلٍ حين صدحت أم کلثوم بأعذب الألحان والكلمات على مسرح حديقته، وشاركت منيرة المهدية والعديد من المغنين هذا المسرح، وغنّى عليه صالح أفندي عبد الحي وزكي مراد وعزيز عيد والشيخ أبوالعلا محمد، وآخرون.
"بروتوكولات حكماء ريش" وجيل الستينيات
و"ريش" كان حاضرًا في الكثير من الكتب والروايات ودواوين الشعر، منها كتاب "الجنوبي" (دار الشروق) – وهو سيرة بقلم عبلة الرويني التي تقول: "كان مقهى ريش هو بداية الطريق إلى أمل دنقل.. إنه الملامح والمكان والهوية الذي بدأت منه رحلة البحث عن شاعرٍ لا أعرف ملامح وجهه.
الزمان أكتوبر 1975.. رحتُ أبحث عن "مقهى" ريش في الزمان الذي أعرفه. مررتُ أمام مقاهي شارع طلعت حرب أسأل حتى وصلتُ إلى مقهى ريش.. لم يكن يختلف كثيرًا من حيث الشكل عن باقي مقاهي القاهرة.. بل إن شكله الخارجي لم ينمّ عن كونه ملتقى الأدباء.. أو حتى عنوانًا أنيقًا لشاعر..اسأل الغرسون: الشاعر أمل دنقل؟ -غير موجود.
ترددتُ أكثر من مرة على المقهى.. وفي كلّ مرة كان الزمان صباحًا.. ولا أجد أمل دنقل.. رفَق بي أحد الغرسونات وقال:
الأستاذ أمل لا يأتي إلا مساءً".
لقد شهد المقهى قصة حبٍّ جمعت عبلة مع أمل دنقل وقد تعرّفت إلى الشاعر الراحل عندما التقت به لإجراء حوارٍ صحافي لجريدة "الأخبار".
وهناك نجيب سرور الذي اعتاد في بداية حياته الجلوس في المقهى والاختلاط بالوسط الثقافي المصري، وكان يوم الجمعة هو ميعاد ندوته ويحضرها أمل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله والعديد من الشعراء الناشئين الذين كانوا يتقربون إليه وكان يعاملهم بلطف. لكنه بعد وقت تمرَّد عليهم جميعًا، وكتب فيهم قصيدة طويلة تحت اسم "بروتوكولات حكماء ريش" في كتابٍ نشره عام 1977، يقول سرور فيها: "نحن الحكماء المجتمعين بمقهى ريش.. من شعراء وقصاصين ورسامين.. ومن النقاد سحالي "الجبانات".. حملة مفتاح الجنة.. وهواة البحث عن الشهرة.. وبأيّ ثمن.. والخبراء بكل صنوف "الأزمات".. مع تسكين الزاي.. كالميكانيزم.. نحن الحكماء المجتمعين بمقهى ريش.. قرّرنا ما هو آت". كان سرور يعبّر عن رفضه للمدّعين، وحملة الأطنان من الكتب من دون فهم محتواها، ومردّدي الشعارات الجوفاء، الذين اكتظّ بهم ذلك الزمان.
وعلى الرغم من تزاحم الأجيال على المقهى، كان لجيل الستينيات على وجه الخصوص حضورُه الخاص، بل إنّ ذاك الجيل هو من صنع حضور المقهى اللافت بحسب تحليل الكتاب. تقول ميسون إنه – المقهى – يستحق لقب "ملتقى جيل الستينيات" لأنه شهد الميلاد الحقيقي لأبناء هذا الجيل الذي أفرز أسماءً جديدةً في القصة والشعر والموسيقى والسينما، خاصةً بعد نكسة حزيران/ يونيو 67. وقد لعب دورًا مهمًّا في ظهور العديد من تلك الأسماء أمثال إبراهيم أصلان، وصنع الله إبراهيم، ويوسف القعيد، وجمال الغيطاني، وفاروق جويدة وغيرهم. وصلاح عبد الصبور الذي كان يجلس مع صالح جودت ومحمد فتحي المعروف بكروان الإذاعة، وكان صلاح جاهين دائم الجلوس مع عباس الأسواني (والد الروائي علاء الأسواني)، كما كان لطفي الخولي يحضر باستمرار لأنّ مكتبه كان مواجهًا للمقهى.
وإلى جانب نجوم الأدب هناك نجوم الفنّ كالراقصة تحيّة كاريوكا التي كانت متزوجة من محمد سلطان، أحد رواد المقهى فكانت دائمًا تأتي لاصطحابه. وكان إسماعيل ياسين يأتي مع صديقه اليوناني أمليو ميلوناس. وكان الممثل أنور وجدي يحضر على فترات متقطعة، كما كان يحضر نجيب الريحاني وشقيقه الصغير ورشدي أباظة، الذي تشاجر ذات مرةٍ مع منادي السيارات أثناء إيقافه سيارته أمام المقهى، وأثناء اشتباكهما أصيب رشدي أباظة بجرح صغير في وجهه فالتفت الناس حول المنادي مستنكرين ذلك منه.
سقطات
تقول وثائق "ريش" القانونية إنّ المقهى لم يكن على صورته الحالية، كان يشرف على ميدان سليمان، وله حديقة مضاءة تعزف فيها فرقة أوركسترا كلاسيكية العديدَ من رقصات الڤالس زمان الرومانسية. ظلّ المقهى مكانًا لملتقى النخبة المثقفة العائدة من دراستها في الغرب، باريس بالذات، وتقول ميسون إنّ المقهى لم يتمتّع بوجود مستقرّ منذ إنشائه عام 1908. وتغيّر المقهى بتغيّر ملّاكه، وكان الوضع العام مهددًا في كلّ هذه المراحل بافتقار استقراره وهويّته أو شكله الخاص. وقد مرّ كذلك بتعديلات عديدة؛ من مقهًى، إلى مقهًى وبار، ثم إلى مقهًى و"تياترو"، ثم إلى مقهًى ومطعم، ثم مطعم وبار، واستقرّ في النهاية على مقهًى ومطعم، وظلّ البار مجرّد مشهد أثري مثل البيانو والصور التي تدلّ على ما كان عليه المكان في السابق. وتحت عنوان "إغلاق مقهى ريش انحراف البوصلة" تقول ميسون صقر إنّ المقهى شهد تغيرًا جذريًّا في نوعية روّاده بعد أن أُغلق في المدة التي امتدّت من شباط/ فبراير 1990 إلى آذار/ مارس 2000 للترميم، إضافةً إلى حلّ بعض المشكلات الخاصة بالترخيص "فمع خشية أصحاب المكان من حدوث أزمات يمكنها أن تلغي رخصته أو تساعد الراغبين في الحصول عليه، أصبحوا ينتخبون من يدخل إليهم بطريقة أو أخرى، ممّا صنع فجوة بين الروّاد والمكان التاريخي".
ولمّح الكاتب المصري أسامة فاروق إلى أنه منذ فترة قصيرة انتشرت على مواقع التواصل شهادات تسجّل مواقف صادمة حدثت في مقهى "ريش" الأشهر في مصر، معظمها كان لكتّاب وصحافيين واجهوا مشكلات غريبة وتصرّفات أغرب تصدّهم عن المقهى التاريخي في وسط القاهرة. في المجمل، لم يكن المقهى مرحِّبًا بوجودهم، كان أصحابه يفضلون "انتقاء" نوعية معيّنة من الزبائن! لا أتذكر السبب الذي دفع إلى نشر تلك الشهادات، لكنها كانت جميعها متقاربة ويُفهم منها المعنى نفسه. هناك وجه آخر للمقهى، أدار ظهره لتاريخه الشخصي. المكان الذي بنى سمعته على الانفتاح على العالم، ببساطة لم يعد كذلك.
وفي العام 2015 غداة وفاة صاحب مقهى ريش، مجدي عبد الملك، قال الروائي الراحل مكاوي سعيد إنّ "القول إنّ المكان كان واحة للمثقفين (يقصد مقهى ريش) ينطوي على رِياء، فقد كان مكانًا سلبيًّا من حيث تعامل صاحب المكان مع المثقفين أو من حيث تحويله لمطعم، بما يفرض على مرتاديه إنفاق مبالغ مرتفعة"، وأضاف إنّ "عبد الملك كان يجلس على منضدة بمدخل المحلّ يتفرّس في الداخلين، ويمنع ويسمح، بمزاجه الشخصي، بالدخول إلى والخروج من المحلّ، يصرف المحجبات بسرعة وضيق، ويمنع المثقفين الشباب الذين يرى أن ملابسهم وسحناتهم لا تليق بالمكان، وكان يتصرف بعنصرية مقيتة، كما لو أنه يتعامل مع أثر ثقافي ورثه عن الأجانب!". وقال سعيد إنّ عبد الملك وشقيقه "لم يتحمّلا الضغوط الأمنية للندوة الأدبية الخاصة بالروائي نجيب محفوظ، فأغلقا المقهى يوم الجمعة أمام الندوة، ما دعا محفوظ لعقد ندوته بمقهى سفنكس في شارع طلعت حرب، ثم بكازينو النيل الذي تلقّى فيه خبر فوزه بجائزة نوبل، وقد هنّأه صاحبا ريش بالجائزة وطلبا منه العودة، لكنه رفض". وكتب المؤرّخ والمحاضر في الجامعة الأميركية، شريف يونس، عبر حسابه على فيسبوك: "مع اعتذاري لأصدقائي من محبّي ريش، وصاحب ريش المتوفى، فقد كان ريش بالنسبة لغير الأجانب وأصدقاء صاحب المطعم - القهوة، ومن يبدو عليهم الثراء، تجربةً مهينة تضمنت الطرد لشبابٍ كان شكلهم (منظرهم) ليس لائقًا بالنسبة لصاحب القهوة".
ويقول القاص هشام أصلان، نجل الروائي إبراهيم أصلان: "دُهشتُ كثيرًا بعد وفاة مجدي عبد الملاك، من رثاء البعض له بكلمات تعبّر عن فقدهم لرجل كان يرحّب بالجميع! تماسكتُ عن إبداء رأي سريع بمنطق احترام الغياب ومشاعر الآخرين، خصوصًا بعد ما عبّر صديقنا الكاتب، محمد خير، عن مشاعري بدقّة، في بوست فيسبوكي طويل متحدثًا عن عنصرية الرجل في اختياره العاملين في المقهى، ومحاولاته انتقاء الزبائن بطريقة غير مفهومة. هل هي طبقية؟ محاولات مَرَضية للحفاظ على روح المكان؟ أنا لا أظن أنه نجح في الحفاظ على روح المكان، ربما حافظ على شكله، غير أنّ روحه كانت تتطلّب بساطة شبيهة بكونه كان مكان التقاء فقراء الكتّاب والفنانين ذات يوم، بحسب الصور المعلقة للراحلين من مرتاديه القدامى.
هل هو صراعٌ بائسٌ مع الوقت، رغبةٌ في تثبيته بشكلٍ أو بآخر عبر الحفاظ على شكل معيّن؟ لا أعرف. لكن ما أعرفه أنه، حتى بالمنطق الطبقي، لم يكن موفّقًا كثيرًا في الاختيار، غير أنّ المدهش حقًّا، هو امتنان بعض المثقفين لصاحب مقهى، لأنه سمح لهم بالدخول! والدخول إلى (ريش) لم يكن يعني غير أن تجلس لتأكل أو لتشرب، مثله مثل أيٍّ من مطاعم وبارات وسط المدينة".
بمعنى آخر شهد مقهى ريش تحوّلاتٍ وأمزجة. ويسأل أسامة فاروق "لكن كيف حدث ذلك التحوّل؟". الإجابة نجدها في ثنايا كتاب ميسون صقر حيث نفهم ببساطة أنها مجرّد مرحلةٍ جديدةٍ من مراحل المقهى، الشاهد الأعظم على التحوّلات في القاهرة، ونفهم أنّ مسألة الانتقاء تلك ليست عشوائية وليست بلا سبب أيضًا، فالمقهى "ترمومتر" شديد الحساسية للواقع، واستمراره حتى الآن في مكانه رغم تغيّر العالم من حوله دليلٌ كافٍ على مدى حساسية ملّاكه وذكائهم وخبرتهم الطويلة في التعامل مع المدينة التي أصبحوا جزءًا من تاريخها السياسي والثقافي. ولم تكن مشكلة "ريش" في فرض نمطٍ محدّدٍ من الزبائن، فصاحب المقهى، بحسب ما ينقل الكاتب نبيل عبد الفتّاح، كان يحول دون تمدّد بعض السوقية في سلوك بعضٍ من روّاد المقاهي الأخرى التي تمارس فيها بعض الثرثرة، ويعود ذلك إلى "حراسته لتاريخ المكان وتقاليده وطقوسه"، وأيضًا لأنّ محمد الفيتوري جاءه ذات مرةٍ قبل الافتتاح الجديد، وسأل عن صديقه يوسف إدريس فقال له مجدي إنه يقاطع "ريش"، ولا يعرف السبب، فذهبا معًا إلى مكتبه بالدور السادس بالأهرام. وقال لهما إنه لا يريد أن يذهب إلى "ريش"، حيث العراك وبعض السابلةِ من مدّعي الثقافة الذين يفرضون ظلّهم السخيف على بعض كبار المثقّفين والكتّاب. من هنا جاء موقف المرحوم عبد الملاك الصارم من الحيلولة دون أن يتحوّل "ريش" إلى مكان يمارس بعضُهم داخله ضغوطًا على روّاد المقهى من كبار الكتّاب والمثقفين، وثمة من يقول إنّ مشكلة يوسف إدريس كانت مع نجيب محفوظ.
يقول الروائي يوسف القعيد: "بشكل عام، يمكن اعتبار المقاهي قبل السبعينيات أماكن مناقشة واحتكاك عقول بعقول. لكنّ الأمر الآن أصبح مختلفًا. أصبحت أماكن "للخناقات" وأيضًا أماكن "للنميمة" وفقدت دورها تمامًا كملتقَى للكتّاب الذين يمكن أن يستفيدوا شيئًا من خلال المناقشات الأدبية الحقيقية. إنّ ما حدث للمقاهي هو جزءٌ من محاولات هدْم القيم التي سادت خلال السبعينيات في عصر الانفتاح المهول. كنتُ منتظمًا في التردّد على المقاهي ومن بينها مقهى "ريش" بالذات أيام ندوة نجيب محفوظ وتوقفتُ بعد خناقة الناقد رجاء النقاش الشهيرة مع الراحل الروائي يحيى الطاهر عبد الله والتي حدثت بعد مجيء السادات للحكم".
وتعكس سيرةُ "العم فلفل" جانبًا مهمًّا من مزاج المكان وناسه وهويته، فهو مصري قدِم من النوبة في النصف الأول من القرن الماضي حينما كان يبلغ من العمر 14 عامًا. يتذكر كيف كان نجيب محفوظ يأتي كل يوم عند السابعة مشيًا إلى "ريش" متأبطًا الجرائد اليومية، ويأخذ القهوة الخاصة به مع قرص الأسبرين ويقابل الناس للحديث في الأدب والسياسة، كما كان يقيم ندوته الأسبوعية كل يوم جمعة حتى تم إيقاف هذا النشاط خوفًا من البوليس وقتها. ويضيف أنّ يوم توقيع "اتفاقية كامب دايفد" التي ثار عليها المثقفون المصريون من ذكرياته التي لا ينساها، إذ نظّم أولئك تظاهرة خرجت من المقهى تتزعّمها مجموعة من الكتّاب والصحافيين على رأسهم يوسف إدريس وإبراهيم منصور وغيرهم. ويرى هذا الرجل أنّ الزمن قد تغيّر كثيرًا حيث كان زبائن المقهى أكثر هدوءًا ورقيًّا وكان الناس أكثر وعيًا وثقافةً من الآن. ونظرًا إلى الحالة الاقتصادية المتعثّرة التي يمرّ بها المثقفون عادة؛ فقد كان "العم فلفل" يكتفي منهم بكتابة المديونيّات في أجندة خاصة، ليذكّرهم بها "حين ميسرة"؛ لذلك يسمّيه بعض الظرفاء "كاسر عين الأدباء". وهو صاحب حكايات ظريفة عاصرَها، معظمها يرتبط بالحسابات المادية؛ مثل قوله إن "توفيق الحكيم قال لنجيب محفوظ: كلّ واحد يحاسب لنفسه!"، في إشارةٍ إلى بخل توفيق الحكيم. يقول محمد البساطي: أحيانًا لا يكون مع أحدنا نقود فيطلب بعض المشروبات وأطعمة ويسدد ثمنها عندما ينشر قصيدةً أو قصةً أو غير ذلك.
تبدو صورة "ريش" الآن مزيجًا من الذاكرة والأطلال والنوستالجيا. في حواره مع ميسون صقر، يلخّص نبيل عبد الفتّاح المسألة فيقول "نحن أمام مقهًى مكتنز بالتواريخ والشخصيات والأفكار، لكنه يبدو الآن غريبًا وسط الأمكنة الأخرى، وجهُ الغرابة يميل في اكتنازه التاريخي والثقافي، وسط أصواتٍ بلا نضال، وأماكن للبيع والشراء تضجّ بالصخب، هي أصواتٌ تتبادل مع بعض الأصوات الرديئة أو الجيدة بين الأجيال الجديدة الشابة، بها بعض المؤيدين وتيّارٌ كاملٌ من العاطلين من المواهب، يوزّعون الصخب والأكاذيب والرداءة في المكان".
في المقابل، يكتب الشاعر محمود خيرالله دراسة "بارات مصر: قيام وانهيار دولة الأنس"، ويقول فيها: "قد يستغرق الأمر سنوات، قبل أن تعترف الثقافة العربية، المتحفّظة بطبعها، بأنّ حياة بعض البارات في القاهرة، وعواصم عربية أخرى، جسَّدت رحلة كفاحٍ طويل، عاشه روّادها، خلال القرن الماضي، وأنّ بعض هذه البارات والمطاعم، مثّلت بوجودها الأصيل في أقدم شوارع القاهرة، مثلاً، رحلةَ نضالٍ ممتعة، لا يلتفت إليها أحد، ضدّ دولة القمع وانتصارًا لدولة الحقوق والحريات. قد يستغرق الأمر سنوات قبل أن نعترف بأن كافيه ريش، يُعتبر أجمل دليلٍ على استمرار الثورة وتألّقها، بوجوده على هذه الأرض لأكثر من مائة عام، كأيقونة سقطت سهوًا من أحد أحفاد محمد علي باشا، أواخر القرن التاسع عشر. كافيه ريش، واحد من المطاعم التي لعبت أدوارًا عظيمة ومُلهمة في تاريخ هذا البلد، عبر انحيازها الدائم إلى جانب الثوّار، في أيام الثورات المصرية الكثيرة، خلال القرنين العشرين والواحد والعشرين، حيث استطاعت هذه المطاعم بالذات أن تكون ملاذًا آمنًا لبعض هؤلاء الثوار، بل وأسهمت في صناعة "شيء" من النجاح لهذه الثورات، وهو ما حدث مع ثورة 1919 وتكرّر بالوتيرة نفسها وعلى المقاعد ذاتها، قبل ثلاثة أعوام، في 25 يناير 2011، وتكرّر ثالثًا العام الماضي 2013، إبَّان ثورة 30 يونيو".
(*) بعد الجزء الأول الجزء الثاني من مقال مستعاد نُشر سابقا في مجلة "بدايات" المحتجبة الآن. ننشره بمناسبة الشائعات عن قفل مقهى ريش في القاهرة، وقيل إن مبنى المقهى سيتحول إلى فندق بوتيك.
