أخيليس المحارب العظيم، أحد أشهر أبطال أساطير الإغريق، لم يكن في الحقيقة سوى ميليشياويٍّ وضيع ومتعطِّش للدماء. هذا أحد الدروس التي لقّنتها الحربُ الأهلية اللبنانية لراوي رواية "اسم الملوك" (Le nom des rois) للكاتب اللبناني الفرنكوفوني شريف مجدلاني، الصادرة حديثاً بالفرنسية عن دار "ستوك" (Stock) والتي اختيرت ضمن القائمة الثانية لجائزة "غونكور" 2025.
والراوي غير المُسمّى، الذي يشبه المؤلِّف في كثير من سماته، مراهقٌ من أسرة بورجوازيّة مسيحيّة، يقضي معظم وقته بين القراءة وأحلام اليقظة. الفاتحون والغزاة هم أبطاله، يتصدّرهم نابليون والإسكندر الأكبر. يلتهم كتب التاريخ كما لو كانت روايات، إذ تفتح له أبواب عوالم مليئة بالمغامرات الدمويّة والحروب الملحميّة والأمجاد الباهرة. إنّه لا يعيش فعليّاً في لبنان بداية السبعينيات، بل في هذه العوالم المسحورة رغم كونها تاريخاً، والتي تبقى حيّةً أمام عينيه ويضجّ صخبها في أذنيه حتّى بعد إغلاق الكتاب بين يديه.
يقول الراوي: "كنت أعيش آنذاك في بلد يتساءل المرء اليوم بدهشة ما إذا كان قد وُجِد بالفعل". إنّه لبنان العصر الذهبي، الذي لُقِّب بسويسرا الشرق، لبنان المصارف والتجارة والنمو الاقتصادي، لبنان السهر والمهرجانات والإنتاج الثقافي الغزير. على مسارحه غنّى جاك بريل ولويس أرمسترونغ وداليدا، وفي فنادقه مكث جان بول بلموندو ولويس أراغون. حتّى أنّ والدَيّ الراوي تناولا مرّة العشاء في أحد المطاعم بالقرب من طاولة يجلس إليها جان كوكتو، فظلّت والدته طوال السهرة تتأمّل ملامح الكاتب الشهير بإعجاب شديد.
لكنّ الراوي لم يكن يعر ذلك كلّه أيّ اهتمام على الإطلاق. ذاك أنّه لم يكن يحيا في عالم الواقع إلّا بجسده، أمّا روحه فكانت تسكن التاريخ الغابر وملاحمه الأسطوريّة. لذا كان ينظر إلى كلّ ما حوله بتعالٍ وشيء من الاحتقار، كأرستقراطيّ يأنف من الانخراط في شؤون عامّة الناس. أقرانه هم الملوك، فكان يبحث عن أسمائهم وسلالاتهم في القواميس والموسوعات، ثمّ يدوِّنها في دفاتر كما يجمع المرء الطوابع أو الفراشات. لكن ليس أيّ ملوكٍ، وإنّما ملوك منسيّون وذوو أسماء غريبة يسحر رنينُها أذنيه: ريكيسوينث ملك القوط الغربيين، جنسريق ملك الوَندال، تاوفآهاو توبو ملك جزر تونغا...
ثمّ كانت الحرب. وكانت نهاية لبنان ونهاية أحلام الراوي.
لم يصدّق غالب اللبنانيين أنّ بلدهم كما عرفوه قد انتهى. لم يصدّقوا أنّ ما حصل في عام 1975 إنّما كان بداية حرب أهليّة. ظنّوا أنّها مجرّد اشتباكات وجيزة، وأنّ الأمور سرعان ما ستعود إلى مجراها. لذا سعوا جاهدين، وخصوصاً الميسورين منهم، إلى الحفاظ على نمط حياتهم، وحين كان الاقتتال يرغمهم على ترك منازلهم، كانوا يلجأون إلى قرى الجبل البعيدة عن المعارك، حاملين معهم لهوهم وسهرهم. ظلّوا في حالة من الإنكار طوال حرب السنتين تقريباً، إلى أن وجدوا أنفسهم بين ركام عالمهم القديم.
أمّا الراوي فلم يصدّق في البداية أنّه لم يعد طفلاً، وأنّ عليه الآن مواجهة الواقع الوَعِر والفظّ والمبتذل، واقع يُشكِّل نقيضاً تامّاً لأحلام يقظته. لذا بقي متمسّكاً بملوكه وأبطاله ومعاركه، إلى أن أدرك أنّ التاريخ الملحميّ الغابر الذي كان مولعاً به ويغوص ساعات يوميّاً في قراءته، ها هو ماثلٌ أمام عينيه: الحرب الأهليّة بكلّ عنفها ودناءتها – خطف واعدامات ميدانية، مجازر واغتصاب. أدرك عندئذٍ أنّ نابليون والإسكندر لا يختلفان كثيراً عن قادة الميليشيات اللبنانيّة، وأنّ الحروب لا تنطوي على أيّ شاعريّة، فتبخّرت جميع أحلامه، وصار كلّما تذكّرها يخجل من نفسه.
"اسم الملوك" رواية عن الحنين، وعن الوهم أو الفخّ الذي يُشكِّله الحنين. فالراوي، إذ يتذكّر طفولته ومراهقته ويحنّ إليهما، إنّما يحنّ في الحقيقة إلى ما لم يوجد فعليّاً: أحلام يقظته، أي الحروب والمعارك كما كان يتصوَّرها، مُضفياً عليها الشعر والبطولة، وليس كما هي في الواقع، أي كما ظهرت له لاحقاً مع اندلاع الاقتتال الأهلي. إنّه حنين إلى وهم بالمعنى الحرفي للكلمة.
ولعلّ حنين اللبنانيين إلى بلدهم ما قبل الحرب هو أيضاً حنين إلى وهم. فبذور الشرّ كانت كامنة في ذاك العصر الذهبي، وتنمو شيئاً فشيئاً، لكنّ أحداً لم يكن يريد أن يراها. كان اللبنانيون يرقصون على فوهة بركان، كما يقول الراوي. ولعلّهم لم يتخلّوا عن هذه الهواية حتّى الآن: فقبل الانهيار الاقتصادي والمالي عام 2019، انهيار تلاه انفجار المرفأ ثم حرب إسرائيليّة مدمِّرة، كان اللبنانيون لا يزالون يرقصون على فوهة بركان.
لا يعني هذا أنّه ينبغي نبذ الوهم كليّاً، إذ يمكن استخدامه لخلق الجمال. ويبدو أنّ هذا ما فعله شريف مجدلاني، ليس في "اسم الملوك" فحسب، بل في مجمل أعماله الروائية. لكنّه في هذه الرواية تحديداً، يعطينا مفتاحاً لفهم أسلوبه الكتابيّ. فهو غالباً ما يرسم في رواياته، مثل "البيت الكبير" و"الإمبراطور مترجّلاً"، سلالة عائلة مرموقة ونافذة، ويروي سيرتها التي تبدأ بماض شبه أسطوري مجيد، وتنتهي بحاضر دنيوي مبتذل. إلّا أنّ ما يتبدّى في نهاية المطاف هو أنّ ذلك الماضي لم يكن مجيداً على الإطلاق، وأنّ أبطاله كانوا أبعد ما يكون عن البطولة. وفي هذا شبهٌ كبير بالسلالات التي يدوِّنها راوي "اسم الملوك" في دفاتره، وبأبطاله الذين يكتشف أنّهم لم يكونوا أفضل ميليشاويي الحرب الأهلية.
القصص التي يرويها شريف مجدلاني في رواياته ليست ملحميّة قطّ، لكنّ المفارقة أنّه يسردها بأسلوب ملحمّي. فأنسب وصفٍ لجمله الطويلة، الأنيقة والسلسلة، هو أنّها ملحميّة: كأنّها جمل شاعر ينشد أمجاد محاربين عظماء، إلّا أنّ الجمل هذه لا تتناول سوى الحياة اليوميّة بكل تفاصيلها وسحرها وتفاهتها ودنيويّتها، أي بما هي نقيض البطولة والأسطورة. كأنّ افتتان مجدلاني مراهقاً بحروب نابليون والإسكندر لم يندثر كليّاً، فظلّ جزء منه حيّاً ينبض في الجملة والأسلوب.
