مّن يتذكّر أنّ غزّة المولودة من لقاء الرمل والبحر عرفت تاريخاً مجيداً لم ينقطع منذ العصر البرونزيّ"؟ بهذه الكلمات يتوخّى منظّمو معرض «كنوز أُنقذت من غزة: خمسة آلاف عام من التاريخ»، الذي يحتضنه حاليّاً معهد العالم العربيّ في باريس، لفت الجمهور إلى قيمة اللُقى الأثريّة التي يعرضونها.
فلئن كانت المجموعة صغيرةً من حيث الحجم، إذ لا يتعدّى عدد القطع المعروضة المائة ونيّف، إلّا أنّها تشي بتاريخ هذه البقعة من فلسطين العريق، وقد تعاقب عليها الكنعانيّون والمصريّون والفلسطيّون والآشوريّون والبابليّون والفرس واليونان والرومان والبيزنطيّون والعرب. ولا يغيب عن منظّمي المعرض الإشارة إلى أنّ غزّة، هذه الواحة البحريّة الواقعة على طرق القوافل بين إفريقيا والجزيرة العربيّة والمدى المتوسّطيّ، كانت مشتهى الإمبراطوريّات الكبرى، إذ كانت تنظر إليها بنهم، وتسعى إلى السيطرة عليها. وهم لا يخفون قلقهم من أنّ السيناريوهات المتهوّرة التي راحت تحاك لغزّة، في الآونة الأخيرة، تهدّد بمحو تاريخ يمتدّ على خمسة آلاف سنة، وبتقويض الهويّة الثقافيّة لهذا الشريط البحريّ الذي يشغل العالم منذ سنتين.
ما حكاية هذه اللُقى الأثريّة التي يعرضها المعهد الباريسيّ؟ إنّها جزء من مجموعة أوسع تنطوي على نيّف وخمسمائة قطعة أثريّة غزّاويّة محفوظة في متحف الفنّ والتاريخ التابع لمدينة جنيف في سويسرا. منذ العام ١٩٩٤، شهد قطاع غزّة حفريّات أثريّةً منهجيّةً أتت ثمرة تعاون بين مديريّة الآثار في فلسطين والمدرسة البيبليّة والأثريّة الفرنسيّة في القدس (EBAF) والمركز الوطنيّ للبحث العلميّ في فرنسا (CNRS). شملت هذه الحفريّات مواقع عديدة أبرزها الميناء القديم المعروف باسمه اليونانيّ «أنثيذون» في بلاخيا من أعمال مدينة غزّة، ودير القدّيس هيلاريون في النصيرات، وموقع مخيطيم في جباليا، الذي يضمّ مجمّعاً كنسيّاً، وموقع تلّ السكن. كان من المقرَّر أن تضحي اللُقى التي كشفتها الحفريّات، فضلاً عن مجموعة السيّد جودت خضري، التي قدّمها إلى السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة العام ٢٠١٨، نواة متحف أثريّ على اسم المدينة. بيد أنّ الظروف السياسيَة حالت دون ذلك. العام ٢٠٠٧، عُرضت أجزاء من هذه المجموعة في إطار معرض «غزّة على مفترق طرق الحضارات» في جنيف. مذّاك، تنتظر الُلقى الظروف المناسبة للعودة إلى الوطن الأمّ.
لا يتناول معرض «كنوز أُنقذت من غزّة» الماضي فحسب، بل يوثّق أيضاً، بالنصّ والصورة، التدمير الممنهج الذي تعرّض له قطاع غزّة إبّان السنتين الأخيرتين على يد الجيش الإسرائيليّ. فبالإضافة إلى جعل اللُقى في متناول الجمهور (للأسف لا ترجمة إنكليزيّة للشروح)، يسلّط المعرض الضوء على قصف المواقع التاريخيّة والأثريّة في القطاع، بما فيها المساجد والكنائس والمقابر والزوايا والحمّامات والأسواق والقصور، بوصفه جرماً متعمّداً يهدف إلى محو معالم تاريخ هذه البقعة من فلسطين وإفناء تراثها الثقافيّ والحضاريّ. في هذا السياق، رصدت منظّمة اليونسكو أضراراً متفاوتة لحقت بستّة وسبعين موقعاً ثقافيّاً في قطاع غزّة، ما استتبع اتّخاذ تدابير عاجلة تنسجم مع الشرعة العالميّة لحماية التراث، كوضع دير القدّيس هيلاريون على لائحة التراث العالميّ المهدّد بالاندثار. ويعمل، منذ اندلاع الحرب، عدد من النشطاء الفلسطينيّين على توثيق المعالم الثقافيّة المهدّدة في القطاع وجعلها في مأمن من التدمير، وذلك عبر التعاون مع هيئات محلّيّة وعالميّة. وقد أسفر هذا النمط الحديث من أركيولوجيا الحروب عن تدريب عشرات الفلسطينيّات والفلسطينيّين على حماية التراث الثقافيّ وإنقاذ المجموعات التي تحتضنها المتاحف والمجموعات الخاصّة.
لا بدّ للحرب من أن تضع أوزارها. إنّ أحد أبرز التحدّيات التي سيواجهها أهل قطاع غزّة آنذاك يتلخّص في حماية إرثهم الثقافيّ، والاعتناء به، وتظهيره للعالم أجمع كي يكون شاهداً على تأصّلهم في الأرض التي ارتوت من دماء أطفالهم. الحروب قادرة، ولا ريب، على تدمير الحجر. لكنّها أعجز من أن تخنق إرادة شعب يعرف تاريخه، ويستلّ منه العبر، كي يصنع المستقبل.
