مقهى "ريش" في القاهرة: روّاده، أدواره، أسطورته(2/1)

محمد حجيريالسبت 2025/10/11
مقهى ريش
شهد المقهى كذلك ولادة العديد من المشروعات الأدبية
حجم الخط
مشاركة عبر

لطالما تخيّلتُ في زمن الطفولة، ولأسبابٍ ساذجة، أنّ اسم مقهى "ريش" في القاهرة يرتبط بريش النعام والمقاعد الوثيرة. ولطالما توهّمتُ أنّ المقهى يشبه الصورة التي رسمها لها الشاعر أحمد فؤاد نجم في قصيدته أو هجائيّته "التحالف"، وغنّاها الشيخ إمام:

يعيش المثقّف على مقهى ريش

يعيش يعيش يعيش.

محفلط مزفلط (يقصد متقعّر)

كثير الكلام..

عديم الممارسة عدوّ الزحام.

وكام كلمة فاضية

وكام اصطلاح.

يفبرك حلول المشاكل أوام.

يعيش المثقّف

 

Imam.jpg
الشيخ إمام سخر من مثقف مقهى ريش

 

كتب أحمد فؤاد نجم، صاحب اللسان السليط والقلب الطيّب، قصيدته، في هجاء "مثقفي ريش". نحن الذين نعيش في بيروت أو لبنان ونسمع أغاني الثنائي ونُعجب بتمرّدهما، وصلت إلينا الصورة السلبية عن المقهى من دون أن نعرفه. هذا نتاج سرّ الكلمة وسحر الإلقاء. لم أكن أعرف تاريخه ومحطاته، وأنّه يمثل "جزءًا مهمًّا من سياق تاريخي اجتماعي، سياسي، ثقافي، أعطاه حكايته وأسطورته"، كما يقول الفنان محيي الدين اللبّاد. وهو يحمل بين جدرانه السياسةَ والثورةَ والموسيقى والشعرَ والقصةَ والفلسفةَ والقانونَ والفنونَ التشكيلية منذ إنشائه في العقد الأول من القرن العشرين.

 

وفي السنوات القليلة الماضية، صدرتْ مجموعة من الدراسات والأبحاث تبيّن أن "ريش" كان مقهًى بثوراتٍ كثيرة، أو هو مقهًى بأدوارٍ كثيرة، ليست بمنأى عن المزاجية المتقلّبة، على مدى أكثر من مئة عام، وفي مرحلة امتدّت من ثورة 1919 التي قادها سعد زغلول، إلى ثورة ميدان التحرير في العام 2011. فعندما ضرب القاهرة زلزال 1992، ظهرت صدوعٌ في مبنى مقهى "ريش" التاريخي والقديم وجاذب المثقفين والشعراء والفنانين والسياسيين في وسط البلد، فتحتّم ترميمه. وفي أثناء عمليه الترميم، وبالمصادفة، اكتُشف قبو يؤدي إلى غرفة سرّية عُثر فيها على ماكينة طباعة يدوية قديمة، يعود تاريخها إلى العام 1898- لا تزال موجودة في المقهى حتى الآن. وقيل إنّ هذه الغرفة كانت المقرّ السرّي لبعض خلايا ثورة 1919. وما يرجّح هذا التخمين أنّ القبو المُكتُشف كان له باب سرّي دوّار تصعب رؤيته لأنه كان محمّلاً بأرففٍ لإخفائه وستره، وخلفه سلّم يؤدي إلى ممرّ صغير يصل إلى بئر مصعد العمارة. "قيل إنّ هذا الباب كان لخروج الثوّار أو القادة من باب العمارة الأساسي الموجود في شارع هدى شعراوي، من دون ملاحظة أحد"، ممّا جعل مجدي عبد الملاك، صاحب "ريش"، يؤكد أنّه ربما كانت قيادات ثورة 1919 تتردد على المقهى. ويؤكد ذلك المؤرخ عبد الرحمن الرافعي، فيقول في كتابه "ثورة 1919: تاريخ مصر القومي من 1914 إلى 1921" (دار المعارف): إنّ "ريش" كان ملتقى الأفندية من الطبقة الوسطى ومقرًّا يجتمع فيه دعاة الثورة والمتحدّثون في شؤون البلاد، وجميع الأطياف الحزبية التي تجتمع في المقهى لتصدر بياناتها الوطنية، ولذلك ظلّ هذا المكان مقصدًا للبوليس السياسي، ولرجال المخابرات، الباحثين عن أخبار الشارع المصري بجميع فئاته وأطيافه".

 

1461239_233014630209541_1276921888_n.jpg

 

"نافذة مشرّعة على رياح الثورة"

وربما كان ميخائيل بوليتس، اليوناني صاحب "ريش" في تلك الفترة، ناشطًا سياسيًّا. يردُ في كتاب "عين على مصر" للشاعرة ميسون صقر أنّ اكتشاف القبو السرّي ولغز المطبعة عزّزا الكثير من التكهنات حول طبيعة الدور الذي لعبه المقهى في خدمة ثورة 1919، ومنها ما يُقال عن أنّ أصحابه أنفسهم بدأوا في استخدام هذه المطبعة منذ الاحتلال الإنكليزي لمصر، وأنّ منظمة "اليد السوداء" المسؤولة عن الجناح المسلّح للثورة كانت أيضًا تلتقي فيه. لكن وبعيدًا من التكهنات والتخمينات، فقد انطلقت من مقهى "ريش" أكبر الأجهزة السرّية لثورة 1919 بقيادة عبد الرحمن فهمي، وكانت وظيفته المحافظة على استمرار اشتعال الثورة، و"تنفيذ رغبات الأمّة". وفيه جلس طالب الطبّ عريان يوسف منتظرًا مرور موكب رئيس الوزراء يوسف وهبة باشا في شارع سليمان باشا (طلعت حرب حاليًّا)، ليلقي عليه قنبلتين يدويّتين، إلا أنّ رئيس الوزراء نجا من الحادث. أما سبب محاولة الاغتيال فهو قبول وهبة باشا تأليف الوزارة، في حين التفّت مصر حول الزعيم سعد زغلول. وبعد رفض القوى السياسية التورّط وتنفيذ أمر الاحتلال- وقد تدخّلت الكنيسة المصرية وطلبت من وهبة باشا الاعتذار لكنه رفض- تمّ تكليف قبطيّ باغتياله تجنبًا لحدوث فتنة بين الأقباط والمسلمين (نجح العقيد طيّار مجدي عبد الملاك، صاحب المقهى، بعد عقود، في ترتيب لقاء ودّي بين حفيدة وهبة باشا، الكاتبة د.فوزية أسعد، وحفيد عريان يوسف، وحضر اللقاء عددٌ من الكتّاب والفنانين).

 

"فشلت محاولة الاغتيال لكن بقيت رمزيّتها، كما بقي مقهى (ريش) عالقًا في الأذهان وفي أوراق المحاكم كنافذة مشرّعة على رياح الثورة"، على ما تروي ميسون صقر، وبقيت عيون الأجهزة الأمنية في الوقت نفسه مسلّطة على المكان أيضًا لعقود بعدها. وبعد سنوات، وتحديدًا العام 1945، جلس في مقهى "ريش" الشاب محمود العيسوي الذي احتسى قهوته في صباح أحد الأيام، ثم توجّه إلى مبنى البرلمان واغتال أحمد ماهر باشا، رئيس الوزراء. وفي هذا السياق يذكر المؤرخ المصري يونان لبيب رزق أنّ مقهى "ريش" كان "منذ العام 1919 وحتى 1952الحلقةَ الوسطى الصغيرة في القضايا المشهورة التي تُسمّى الاغتيالات السياسية، هكذا كان يُطلِق عليه البوليس".

 

250711461_206338918308735_181027705028478368_n.jpg

 

لا شكّ أن موقع "ريش" في وسط البلد بالقرب من مراكز الحكم، أسهمَ في أن يحتلّ تلك المكانة. تذكر مصادر مثلاً أنّ جمال عبد الناصر قبل تموز/ يوليو 1952 كثيرًا ما كان يتردّد عليه. كما أنّ حاشية الملك فاروق اختارت "ريش" لانتظار الملك الذي اعتاد السهر للعب القمار في نادي السيارات، وهو على مرمى حجرٍ من المقهى.

 

ملعب أدبي

في العام 1963، طلبت أجهزة الأمن من الروائي نجيب محفوظ فضّ الندوة التي اعتاد أن يعقدها صباح يوم الجمعة من كلّ أسبوع في "كازينو أوبرا"، بدعوى تنفيذ قانون منع التجمهر في العهد الناصري، فانتقل إلى "ريش"، وكان يعلم أنّ عددًا من الكتّاب والفنانين الشباب اعتادوا التردّد عليه، لكنه غيّر الموعد الأسبوعي إلى مساء الجمعة. وعلى مدى سنواتٍ وسنوات، كان بوسع من يحضرون ندوته المفتوحة أن يضبطوا ساعاتهم على الساعة الخامسة تمامًا.

 

يخبر الروائي جمال الغيطاني، أحد أبرز أصدقاء محفوظ، قائلاً: "في أحد أيام 1961 كان الرئيس جمال عبد الناصر ذاهبًا لصلاة الجمعة في الأزهر، وكان موكبه يأتي من شارع الجمهورية ويتّجه إلى ميدان الأوبرا، ثم إلى ميدان العتبة فشارع الأزهر. ولتأمين الموكب كان بعضٌ من ضبّاط الحراسة في الشارع. وقد لاحظوا أناسًا بالنظّارات يدخلون مقهى الأوبرا، الذي يقع في شارع جانبيّ صغير ويتكوّن من ثلاثة طوابق وفيه سُلّم حلزوني، كما لاحظوا أنّ مرتدي النظّارات يدخلون هذا المكان واحدًا وراء الآخر، فشكّوا في الأمر. فصعد ضابطٌ إلى المقهى ووجد الأدباء مجتمعين حول الأستاذ نجيب فتقدم ناحيته وسأله: من أنت؟ فعرّفه نجيب محفوظ بنفسه وقال له: نحن أدباء نجلس هنا منذ العام 1943. فطلب منه الضابط بطاقة تحقيق الشخصية، فأعطاها له نجيب. وفي الأسبوع الثاني حضر ندوة محفوظ ضابطُ أمن وجلس خلف الأدباء، وبعدما انتهت الندوة، ذهب إلى نجيب محفوظ وقال له: أنتم تتكلمون كلامًا غريبًا وترددون أسماء أغرب، مثل تولستوي، وأنا أريد منكَ تلخيص هذه المناقشات حتى نأخذ فكرة عنها. وفي الأسبوع التالي اتّخذ محفوظ قراره بإنهاء علاقته بمقهى الأوبرا، وانتقل إلى مقهى "ريش" الذي صار المقرّ الأول لمحفوظ"، حتى أنّ المثقفين والكتّاب الأجانب كانوا يرسلون الخطابات إلى محفوظ على مقهى "ريش"، وليس على عنوان بيته.

 

250566263_865525077491548_4234681292169128344_n.jpg

 

ويحكي الروائي المصري محمد البساطي ذكرياته مع مقهى "ريش" قائلاً: "انتقلنا إلى مقهى "ريش" مع انتقال أديبنا نجيب محفوظ إليه، فقد كانت جلساته في بداية الستينيات في كازينو صفيّة حلمي بميدان الأوبرا في ذلك الوقت، وكنتُ قد قصدت هذا المكان لأول مرة لأرى نجيب محفوظ، ولم أكن قد نشرت أول أعمالي بعد، وعلمت أنه يذهب إلى هناك كلّ يوم جمعة، فأخذت أتردد على المقهى وألفّ إلى الناس. وبعدها بدأتُ بنشر أولى قصصي في ملحق جريدة "المساء" التي كان يُشرف عليها عبد الفتّاح الجمل، وكان دائمًا ما يحصل على القصص والأشعار من أصحابها أثناء جلوسنا في المقهى. ويأخذنا النقاش وننتقل إلى مقهى الريحاني في شارع عماد الدين ونقابل هناك يحيى الطاهر عبد الله، وأمل دنقل، وإبراهيم أصلان".

 

ويكمل البساطي: انتقل نجيب محفوظ إلى "ريش"، وكانت له جلسة كلّ خميس هناك يرافقه فيها ثروت أباظة، وكان أجمل ما في هذه القهوة أنها مفتوحة على الشارع من خلال ممرّ طويل، وإذا أراد أيّ شخص رؤية أيّ كاتب أو شاعر فعليه أن يسأل عنه في "ريش"، فإن لم يكن موجودًا دلّوه على مكانه، فأصبح مقهى "ريش" بمثابة بيت للمبدعين، وأصبح العاملون بالمقهى من أهلنا. ومن الطريف أنّ الكتّاب والأدباء الجدد لم يتشجعوا على الدخول إلى "ريش" قبل أن تُنشر لهم بعضُ الأعمال، فكان بعضهم يقترب من بعيد لينظر خلسةً إلى الجالسين في المقهى ويراقبهم، فإذا ما نَشر أول أعماله تشجع لدخول المقهى، ومن هؤلاء جار النبي الحلو وسعيد الكفراوي. ولم يكن "ريش" قاصرًا على الرجال فقط، فكان هناك عدد من المثقفات أيضًا يأتين إليه خصوصاً يوم الخميس عندما كان يأتي نجيب محفوظ، ومنهنّ عطيّات الأبنودي والناقدة وداد حامد الباحثة في الفنون الشعبية.

 

وفي مقهى "ريش" وُلدت موهبة يحيى الطاهر عبد الله وعبد الرحمن الأبنودي ومحمد عفيفي مطر وأمل دنقل الذي كان يقف في قلب المقهى يقرأ قصيدته "الكعكة الحجرية" على مرتاديه كأنّه في محفلٍ للشعر. ويقول الروائي محمود الورداني: "أتذكر جيدًا أنّ صديقي الكاتب الراحل يحيى الطاهر عبد الله اصطحبني إلى (ريش) العام 1969 على الأرجح، وكان عمري آنذاك لا يتجاوز التاسعة عشرة. لم أذهب معه أصلاً من أجل نجيب محفوظ، بل من أجل أن أعيش وأرى هؤلاء الذين كنت أسمع الحكايات عنهم، بل وقرأتُ بعض أعمالهم في جريدة "المساء"، التي كنتُ قد نشرت فيها قصتي الأولى "كرنفال" العام 1968. كنتُ طالبًا في معهد الخدمة الاجتماعية بالقلّلي، ومبناه قريب من مبنى دار التحرير، حيث جريدة "المساء". وكان أصدقاء شقيقي الأكبر الراحل، عبد العظيم، قد قرأوا القصةَ وشجعوني على الذهاب إلى عبد الفتّاح الجمل بقصّتي لنشرها. لم يكن الجمل موجودًا، فتركتها له، وقام بنشرها بعد يومين فقط من دون أن يراني".

شهد المقهى كذلك ولادة العديد من المشروعات الأدبية مثل مجلة "الكاتب المصري" التي صدرت العام 1945 ورأس تحريرها العميد طه حسين، وبمشاركة مجموعة من الكتّاب حتى احتجبت في 1948؛ و"المجلّة الجديدة" التي كانت "حركةَ الفن والحرية"، وتولّى تحريرها رمسيس يونان، وهو من أبرز روّاد التجديد في الفن المصري؛ وفي أحضان المقهى أيضًا وُلدت مجلّة "غاليري 68" في أعقاب نكسة 1967، والتي هدفت إلى تجديد كامل في الأدب المصري.

 

250937817_4780998508658269_6112637460068802639_n.jpg

 

وخرجت إبداعاتٌ كثيرة كَتبت عن "ريش"، منها رواية "الكرنك" لنجيب محفوظ، ويردّد البعض أنه أخذ اسم الرواية من إعلانٍ مكتوبة عليه كلمة "الكرنك" كان معلقًا فوق "ريش". ويروي الغيطاني أنّ فكرة الرواية راودت نجيب في المقهى، حين رأى حمزة البسيوني- قائدَ السجن الحربي، قبل أن يعزله جمال عبد الناصر ويحاكمه- يدخل المقهى في خشوعٍ وانكسار من دون حرّاس. وقد سرد فيها محفوظ بعضَ ما تعرّض له المثقفون في سنوات حكم عبد الناصر من ممارسات الدولة البوليسية آنذاك. وتحوّلت الرواية إلى شريط سينمائي عُرض في العام 1975 لنخبةٍ من النجوم أبرزهم سعاد حسني ونور الشريف.

 

ويؤكد السيناريست أسامة أنور عكاشة أنّ شخصيات مسلسل "ليالي الحلمية" اقتبسها من شخصيات واقعية كانت تجلس في "ريش"، إذ اقتبس شخصية سليم باشا، التي جسّدها الفنان يحيى الفخراني، من ملامح شخصية محمد عفيفي باشا، والفتوّة صاحب المقهى في المسلسل اقتبسه من ملامح سليم حداد، وهو لبناني الأصل. أما شخصية العمدة التي جسّدها الفنان صلاح السعدني، فهي عمدة القرية المجاورة لقريته. ويضيف عكاشة أنّ جاذبية المقهى تكمن في أنه يضمّ تشكيلةً من البشر يصعب تجميعها أو معرفتها في مكان آخر.

 

كتاب ميسون صقر

 

ملعبٌ سياسي ونضالي

يُقال إنّ "ريش" كان مقرًّا لتجمّع لاجئين سياسيين عرب خلال العقد السادس من القرن العشرين وغيرهم من الوافدين للدراسة والزيارة، والكثير من صنّاع الأحداث في العالم العربي. يذكر بعضُ الروايات أنّ الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين كان من بين المتردّدين على "ريش"، ويقول محمد حسين صادق الشهير بـ"العم فلفل"، وهو أقدم نادل في المقهى، عمل فيه منذ العام 1943، إنّ صدام كان زبونًا دائمًا للمقهى طيلة فترة دراسته ولجوئه في القاهرة. وكان المقهى أيضًا مكانًا لجلوس قحطان الشعبي، الذي أصبح أول رئيس لجمهورية اليمن الشعبية عام 1967، وكان يلتقي يفغيني بريماكوف، عندما كان مراسلاً لجريدة "برافدا" الناطقة بلسان "الحزب الشيوعي السوفييتي"، وعبد الفتاح إسماعيل الذي أصبح رابع رئيس لليمن العام 1978، وقائد الثورة اليمنية عبدالله السلّال، والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وكذا صلاح خلف (أبو إياد)، والشاذلي بن جديد، والسياسي اليمني محمد أحمد نعمان، و الشاعر العراقي عبد الوهاب البيّاتي، والفلسطيني معين بسيسو، والسوداني محمد الفيتوري.

 

وشارك "ريش" أيضًا في انتفاضة الطلاب عام 1972، وكان مقرًّا لكتابة البيانات المؤيّدة لمطالبهم ليلة 24 كانون الثاني/ يناير 1972 بعدما فضّ الرئيس أنور السادات اعتصام جامعة القاهرة واعتقل قرابة ألف طالبةٍ وطالب، فخرج زملاؤهم في اليوم التالي بتظاهرات صاخبة انتهت باحتلال ميدان التحرير. وهكذا خرج أول بيانٍ لمساندة الطلاب من "ريش" الذي كان على مرمى حجرٍ من الميدان. وفي رواية "مالك الحزين" لإبراهيم أصلان، مشاهد عديدة يتوجه فيها بعضُ الكتّاب إلى المسارح القريبة لجمع توقيعاتٍ من الممثلين والفنانين لمساندة انتفاضة الطلاب. كما خرج منه البيان الشهير العام 1973، الذي وقّعه توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وغالي شكري ولطفي الخولي وإبراهيم منصور وبهاء طاهر وعشرات غيرهم، يتضمّن رفض حالة اللاسلم واللاحرب التي استمرت ست سنوات متواصلة، وهو البيان الذي ردّ عليه السادات بفصل 111 كاتبًا وصحافيًّا من أعمالهم ومنعهم من الكتابة.

 

صالون ريش الثقافي
نجيب محفوظ في واجهة صالون ريش الثقافي

 

من "ريش" أيضًا خرجت أول تظاهرة في ظل قانون الطوارئ، وقادها يوسف إدريس في تموز/ يوليو 1972 احتجاجًا على اغتيال الموساد للأديب الفلسطيني غسان كنفاني في الحازمية شرقي بيروت. ويروي محمد البساطي أنه يوم قرّر السادات عقد معاهدة السلام مع إسرائيل كتب إبراهيم منصور على جدران المقهى "شعب مصر لا يؤيّدكم في الذهاب للقدس"، وكانت التظاهرات تملأ الجامعات، ويقول: "في ذاك اليوم قابلتُ إبراهيم فتحي وتوجّهنا لنجلس بالمقهى، وهنا وجدنا الشرطة بانتظارنا بسبب ما كتبه إبراهيم منصور". ويكتب محمود الورداني أيضًا أنه في ليلة زيارة السادات للقدس، كتب إبراهيم منصور لافتةً ضد السادات احتجاجًا على الزيارة وجلس في "ريش"، لكنّ المخبرين أحاطوا به وبمن يجلس معه، وحملوا الجميع إلى الداخلية. وهناك أفرجوا عن إبراهيم فتحي ومحمد البساطي وسيد موسى ومصطفى عبد العزيز، بينما اعتقلوا إبراهيم منصور الذي أمضى ثلاثة أشهر قبل الإفراج عنه.

 

و"ريش" في معنًى من المعاني، "ملعبٌ سياسي صغير أحيانًا وكبير أحيانًا أخرى"، يقول كبير المراسلين الأجانب في مصر ومراسل مجلة "دير شبيغل" الألمانية فولكهارد فيندفور (1937- 2020)، الذي أجرى ما يزيد على 11 حديثًا مع السادات وكان من روّاد المقهى القدامى ويُعدّ شاهد عيانٍ على التاريخ الثقافي والسياسي لـ"ريش" وكان عاشقًا لطبق الـ"سباغيتي" الذي يقدّمه: "ريش ليس مكانًا وليس مقهى، بل جزيرة للحوار الحرّ". ولا توجد أماكن مماثلة لها هذا التاريخ، ففي هذا المقهى كان يلتقي محمد حسنين هيكل ومصطفى أمين.

 

وقد حاول المقهى استعادة بعضٍ من ألقه القديم مع الشرارة الأولى لثورة 25 يناير 2011 حيث فتح أبوابه للجميع محاكيًا تاريخه السابق الذى كان فيه فضاء للحرية. وتكرّر الأمر نفسه في 30 حزيران/ يونيو 2013 حيث عقد المثقفون اجتماعات مهمة فيه ونظموا وقفات احتجاجية وبيانات تمّت كتابتها بالكامل داخل جدرانه. في العام 2016، قدّم الشاعر محمود خيرالله دراسة "بارات مصر: قيام وانهيار دولة الأنس" (دار روافد)، وفي الفصل الذي يحمل عنوان "كافيه ريش.. مائة عام من الثورة"، يقول إنّ كثيرين يتحدثون عن دورٍ للمقهى في الربيع العربي، يحكون عن ثوّار تلقّوا الغذاء والدواء على نفقة المكان، واضطروا إلى استعمال الأبواب السرية التي يتمتع بها القبو، تحدّثوا عن علاجٍ تلقاه بعضهم من الإصابات، خلال الأحداث التي لحقت في السنوات الثلاث الماضية، وعن دور وطني كبير ما زال موصولاً من رفاق سعد زغلول إلى رفاق ثورة يناير، الذين مروا بدورهم من هنا.

 

(*) الجزء الأول من مقال مستعاد نُشر سابقا في مجلة "بدايات" المحتجبة الآن. ننشره بمناسبة الشائعات عن قفل مقهى ريش في القاهرة، وقيل إن مبنى المقهى سيتحول إلى فتدق بوتيك.

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث