خريطة القاهرة الأدبية: مقهى ريش - فندق بوتيك

شادي لويسالسبت 2025/10/11
صورة قديمة لمقهى ريش
"مقهى ريش" في زمن مركزية "وسط البلد"
حجم الخط
مشاركة عبر

"لماذا يحتوي كتاب عن الأدب والأدباء على خريطة؟ الخريطة أفضل من الشروح كافة في تمكين القارئ من تكوين فكرة عن التركز الشديد للحياة الثقافية والفكرية المصرية"، بهذه الكلمات يمهد الباحث الفرنسي ريشار جاكمان للاستعانة في كتابه "كتَبة وكتّاب" بخريطة لـ"قلب القاهرة" أو "المدينة الأوروبية" كما يسميها أو كما كنت تدعى حين أنشئت في عهد الخديوي إسماعيل، أو "وسط البلد" كما نعرفه نحن أهل المدينة.

 

الفصل الذي يتضمن هذه الخريطة يحمل عنواناً مفسراً، "الحقل المحدود: هيراركيات اجتماعية". ففي حيز ضيق بمدى 300 متر حول ميدان عبد المنعم، يتكثف الحقل الأدبي المصري، بمقاهيه ومكتباته ودور نشره وباراته وغاليرهاته، وعلى بعد أقل من كيلومتر واحد تقع المؤسسات الثقافية والصحفية الكبرى بالإضافة إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون. والحال أن ذلك التركز الميكرسكوبي يعكس الحيز المحدود للحقل الثقافي مادياً ومعنوياً، كما يعكس سياسات التخطيط المديني المركزية للدولة المصرية، سواء في طورها الخديوي أو لاحقاً في عهد الجمهورية الناصرية. تلك المركزية، كما تتبدى في مبنى مجمع التحرير البيروقراطي الهائل، تذكرنا بماض كانت مؤسسات الدولة تتولى فيه زمام الثقافة بالكامل

 

في نهاية شهر آب/أغسطس، تم الإعلان عن إغلاق مقهى زهرة ستراند، وهو واحد من أشهر مقاهي وسط البلد العريقة، وذلك بعد بيعه إلى أحد تجّار النظارات. المقهى الذي يعود تأسيسه إلى العام 1937، كان نقطة التقاء للعديد من الكتّاب والعاملين في الحقل الثقافي من أجيال مختلفة، كما كان أيضاً مقصد أهالي المنطقة والعاملين فيها من حرفيين ومهنيين وصغار الموظفين. وطوال أيام، نشر العديد من المثقفين القاهريين في مواقع التواصل الاجتماعي وداعات للمقهى، مرفقة بصور لهم ولكبار الأدباء من الأجيال السابقة على مناضده ومستندين إلى جدرانه المزينة بكتابات الخط العربي. علاوة على الحنين إلى زمن مضى، كانت هناك إشارات عابرة إلى التحول الرأسمالي والتغيرات المعمارية المتسارعة التي تلحق بالعاصمة المصرية وفي وسطها على وجه الخصوص.

 

بعد أقل من شهر من إغلاق المقهى، تم الإعلان عن تحويل مبنى مقهى ريش-الأشهر بين كل مقاهي وسط المدينة- إلى فندق بوتيك. ما خفف من وقع الخبر هو أن المقهى التاريخي سيبقى على نشاطه الأصلي، بينما سيطاول التطوير طوابق المبنى الأخرى. الأمر الآخر هو أن المقهى كان قد تحول قبل وقت طويل إلى وجهة سياحية، وكانت إدارته تفضل استقبال الوفود السياحية والزوار الموسرين على استقبال منتسبي الوسط الثقافي، وبالأخص الأصغر سناً منهم والأقل قدرة على الدفع. وعلى خلاف مقهى ستراند الذي تم شراؤه من قبل مشروع تجاري متوسط الحجم، تستحوذ شركة الإسماعيلية للاستثمار العقاري على ريش، وهي الشركة نفسها التي استحوذت على عشرات المباني في منطقة وسط المدينة منذ تأسيسها في العام 2008. نالت أعمال التطوير التي قامت بها الشركة في وسط المدينة، استحساناً واسعاً، لكن المنطق الاقتصادي الذي يقف وراءها يحول المنطقة بوتيرة سريعة إلى مركز سياحي وتجاري، وذلك بالتوازي مع تعقيم جيوبها التي كانت يوماً مرتع للقاءات المثقفين وتسكعهم

 

اليوم، ستكون محاولة رسم خريطة للقاهرة الأدبية مهمة عسيرة وعلى الأغلب غير ممكنة. منذ مطلع الألفية، ومع البحبوحة النسبية التي أتاحها تحرير السوق، وبالأخص خصخصة وسائل الأعلام والصحف، بدأت هجرة ثقافية بطيئة، لكن متواصلة من وسط المدينة إلى المعادي والزمالك والمهندسين والمقطم. ومع تراجع دور مؤسسات الدولة في المجال الثقافي، علاوة على ظهور فروع سلاسل المكتبات الخاصة في أحياء القاهرة الموسرة من المعادي إلى مدينة نصر والمدن الجديدة، فقد وسط المدينة الكثير من مركزيته. بعد ثورة يناير، استهدفت الأجهزة الأمنية المنطقة وكل أشكال التجمعات فيها بوصفها مركزاً للقلاقل السياسية، مما جعلها لفترة طويلة منطقة غير آمنة للقاءات الخاصة أو الأنشطة الثقافية. ما زال وسط البلد مركزاً ثقافياً، لكنه مركز واحد وسط مراكز أخرى صغيرة ومتناثرة.

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث