سماء محتشدة ومتلبدة..ولا أحد في لندن يبكي علينا

سليمان بختي الجمعة 2025/10/10
لندن
تناقضات الحياة في لندن
حجم الخط
مشاركة عبر

لم تمنحني لندن دهشتها المفرطة كما في كل مرة، فلم أعد أذكر عدد الرحلات إليها ولا مناسباتها، وإن كانت في الأخيرات منها للاطمئنان على ابني وابنتي في الإقامة والعمل في بلاط بلاد السان جيمس. حقاً، لا تستعاد الخطوات الأولى ولا الروائح ولا رذاذ المطر الناعم يهمي بلا انقطاع. ما عادت لندن كما وصفها صموئيل جونسون" لأنك إذا مللت لندن فقد مللت الحياة".

 

 فهنا شارع أوكسفورد الشهير في وسط المدينة يدخل في تجربة تحويل مزاج البريطانيين من خلال مقاهي الألأرصفة. وأيضا في التحول إلى شارع للمشاة على الأقل في نهاية الأسبوع بعدما ازدحمت أرصفته بالناس من كل الأجناس تروح وتجيء على الدوام. وحيث الواجهات مضاءة وملونة ومزدانة مثل شجرة الميلاد. لا تهدأ حركة القطارات فوق الأرض وتحتها منذ الصباح ولا حركة الشباب والصبايا المسرعين في كل الاتجاهات. تغتبط لرؤية تلاميذ الجامعات في حركة الاحتجاج والتظاهر تقريباً كل اسبوع تأييداً لغزة وفلسطين. لكن اخبار لندن ليست على ما يرام. فهناك تزايد في عدد "الهوملس" أو المشردين يفترشون الشوارع وأبواب المحلات، والاقتصاد منكمش والعديد من المولات الكبرى والمحلات أقفل أبوابه أو قلص نشاطاته. 

 

والسباق محموم بين الغلاء وزيادة الأجور. والحرب الأوكرانية لا تزال تستنزف بريطانيا وأوروبا كلها. واليمين المتطرف الصاعد يلقى هوى فقد دعا زعيم حزب الاصلاح نايجل فأراج إلى تظاهرة في 13 ايلول الماضي، قدرت بأكثر من مئة ألف، احتجاجاً على سياسات الهجرة وتحت شعار "وحدوا المملكة" وحملوا لافتات تطالب بإعادة المهاجرين إلى بلادهم والأعداد بلغت هذه السنة 28 ألف مهاجر. هذه التظاهرات تبدو وكأنها تعترض بطريقة معكوسة على أمور مغمسة بالسياسة والمصالح حتى أخمصها. وبدأت هذه الروح الغاضبة تتسرب إلى الشارع من خلال النظرات وتعابير الوجوه. وهناك طرفة يتداولها المهاجرون، وهي أن وزيرة الداخلية شعبانة محمود التي تتشدّد في اجراءات الهجرة، هي من اصول باكستانية. وأنهم صوروا بالفيديو شريطاً لمتظاهرين ضد سياسات الهجرة يأكلون الفلافل بعد انتهاء التظاهرة. هذا الجو دفع برئيس الوزراء كير ستارمر، إلى الرد بالقول إن بريطانيا اليوم على مفترق الطرق، فإما أن نختار الاحترام والتضامن والتنوع، وإما التقسيم والتجزئة. 

 

وتشعر أن الإنكليز مثلنا، وليس مثلنا أحد، ينتظرون لحظة ما، لحظة قد تسبق الكارثة على ما يقول دوستويفسكي. أي شيء من هراء الوهم أو الشهود على السقوط، ولا يملك المرء شيئا سوى المرور فيه. لكن رغم ذلك، لايزال شاي الساعة الخامسة يقدم في وقته، ولا يزال نهر التايمز يجري في مستقره ليصب في بحر الشمال. ولا تزال الجسور والأبراج العالية تثير الدهشة كما وصفها تشارلز ديكنز في "الآمال الكبيرة" أو ربيع جابر في" يوسف الإنجليزي"..

 

التايمز لندن
نهر التايمز

 

في 21 ايلول الماضي، أعلن رئيس الحكومة كير ستارمر اعتراف المملكة المتحدة رسمياً بدولة فلسطين.

ويتساءل المرء هل يشبه هذا الاعتراف بمفاعيله وعد بلفور الشهير في القرن الماضي؟ أم تغيرت المياه تحت الجسر؟ لكن ستارمر علق على الأوضاع في غزة بالقول: "المجاعة والدمار لا يطاقان إطلاقاً. هذا الموت والدمار يرعبنا جميعاً. أوقفوا هذه الأساليب ودعوا المساعدات تتدفق". وكتب مقالة في 24 أيلول في الصحف البريطانية، نقلتها بعض الصحف العربية، تحت عنوان "أصداء التاريخ والتزامات أجدادنا"، فقال بأن الاعتراف بدولة فلسطين هو خطوة حيوية على درب يعيش فيه المواطنون العاديون بسلام، مؤكداً أن الاعتراف لا يغير الوضع على الأرض واننا نجدد عهدنا في بذل الجهود ومواصلة زيادة المساعدات الى غزة. ولا يزال عمدة المدينة صادق خان (من أصول باكستانية) يخترع أفكاراً جديدة مثل تجربة تعزيز استخدام الدراجات الهوائية التي تملأ شوارع المدينة، وتخصيص بعض الشوارع في المدينة للسيارات الكهربائية. وأبدى خان جرأة لافتة في انتقاده لزيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للمملكة.

 

لندن
تزدحم الأرصفة بأناس من كل الأجناس يروحون ويجيئون على الدوام

 

لكن لندن رغم كل شيء تظل على عهدها في مجال الثقافة والتنوع والحداثة. فالمكتبات ملأى بالرواد، وعروض الكتب لبيع الكتاب الثاني بنصف السعر تجذب تلاميذ الجامعات. والمسارح كذلك ملأى بالعروض الجديدة والمتجددة مثل "كاباريه" و"ماما ميا" و"اوليفر" و"شهود المتلاحقة" و"شبح الأوبرا" و"تيتانيك"، كوميديا موسيقية وغيرها الكثير. تأسى لأنك لا تستطيع مشاهدة كل هذه العروض الجميلة. وتقرا في إعلانات المترو أن الوقت هو المال والوقت يأخذ كل المال. تحاول ان تزرع في نفسك طمأنينة من كل الوجوه القريبة والبعيدة التي التقيتها. وتدرك وأنت في الطريق الى المطار أن هذا الغيم المتلبد الذي يقف في وجهك، لا يشبه غيومنا التي تعبرنا بليونة. تحاول ألا تتعود على صوت المترو وهو يطحن الحديد على السكك. وتتأكد أنك منذ غادرتها اخر مرة لا تزال لندن تغتسل تحت المطر. تتذكر كلمات الشاعر نزار قباني: "لأي سماء نمد أيدينا/ ولا أحد في شوارع لندن يبكي علينا".

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث