"أرض الأبطال"...أول فيلم عربي تدور أحداثه في غزة

أشرف غريبالأربعاء 2025/10/08
بعض الجنود المصريين على أرض غزة
أول فيلم تحدث عن قضية "الأسلحة الفاسدة " التي قيل أنها سببت هزيمة الجيش المصري في فلسطين
حجم الخط
مشاركة عبر

يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش في مقال له بصحيفة "الأهرام" القاهرية، تحت عنوان "غزة كل يوم"، في 3 كانون الأول 1971: 

"غزة لا تواصل انفجارها اليومي لنقول لها شكراً.

وغزة لا تواصل انقضاضها اليومي على الموت لكي نكتب عنها قصيدة.

وغزة لا تجد متسعاً من الوقت لكي تقرأ تحياتنا.

ولا بريد إلى غزة لأنها محاصرة بالأمل وبالأعداء.

ورغم ذلك نقف اليوم وكل يوم لكي نصلى لاسمها النادر بين الأسماء".

 

سنتان منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 ونحن نقف كل يوم - كما قال درويش - لكي نصلي لاسمها النادر بين الأسماء، لم تعد غزة مجرد مدينة أو قطاع، أو حتى قطعة أرض عزيزة مدججة بالدمار والكبرياء، لقد أضحت رمزًا لقضية شعب وكرامة وطن حتى وهي تعيش مأساة متجددة كل لحظة. وطوال العامين المنصرمين، أتاحت الأحداث في غزة الفرصة لإنعاش ذاكرتنا الفنّّيّة بأعمال تماست مع القضية الفلسطينية منذ النكبة الكبرى العام 1948. ولا أدري لماذا غفلت ذاكرة معظم من عددوا ما أنتجته السينما المصرية من أفلام تناولت القضية الفلسطينية هذا الفيلم المهم على خلفية أحداث غزة، وحتى من انتبهوا إلى عنوانه – وهم قلة – توقفوا فقط أمام ما توافر من معلومات في مواقع الإنترنت، غالبيتها مغلوطة أو غير دقيقة، رغم أهميته في محتواه وفي سياقه الزمني، شأن كثير من الأعمال الفنية التي أتاحت أحداث غزة الأخيرة فرصة إعادة اكتشافها. وأعني هنا فيلم "أرض الأبطال" الذي عُرض في العام 1953 من إخراج نيازي مصطفى، وبطولة كوكا وجمال فارس وعباس فارس وعمر الجيزاوي.

 

ارض الابطال

 

وقد وقعت مؤخراً على الكتيب الدعائي النادر للفيلم ومجموعة من الصور الخاصة به، وأظن أن هذا الاكتشاف يزيل كثيرًا من الالتباس الذي أحاط بالفيلم والخلط الذي يصادفه أحيانا بينه وبين فيلم آخر عن القضية الفلسطينية هو "أرض السلام" من بطولة فاتن حمامة وعمر الشريف، ومن إخراج كمال الشيخ والمعروض في العام 1957 بعد أربع أعوام من عرض فيلم "أرض الأبطال". سردية الفيلم – في عجالة – تحكي عن شاب أرستقراطي كان يعيش حياة مستهترة فإذا بحياة الجندية تبدل سلوكه وتجعل منه شابًا قويمًا، ويتجلى معدنه الأصيل عندما تتحرك وحدته للقتال في فلسطين مع إعلان الحرب على العصابات الصهيونية العام 1948، وهناك.. وسط الدمار والمواجهات العسكرية يتعرف على الفتاة الفلسطينية التي تهجرت من "المجدل" في قلب فلسطين إلى غزة على الحدود المصرية، ومنها إلى مناطق أخرى هرباً من ملاحقة العدو وغاراته المتعاقبة. وفي اللحظة التي كاد يفقد فيها حياته، لا يجد سوى تلك الفتاة لتنقذه من الموت، لكن بعدما فقد بصره. وقد تبدو الخطوط العامة لقصة الفيلم تقليدية معتادة، غص بها الكثير من الأفلام المصرية مع اختلاف الظروف والملابسات وخلفيات الأحداث، لكن تبقى للفيلم أهميته التي تسترعي الانتباه:

 

أولاً: كان "أرض الأبطال" أول فيلم مصري وعربي يذكر صراحة أن معظم أحداثه تدور في غزة، وتظهر في الشاشة لافتة محطة سكك حديد رفح وقت ترحيل المصابين المصريين من أرض المعركة عائدين إلى مصر لاستكمال علاجهم. كذلك أظهر الفيلم حالة التآلف بين المواطن الفلسطيني في غزة وأبناء الجيش المصري، وشعور هذا المواطن باللحمة مع أفراد الجيش في وقفتهم مع الحق الفلسطيني، وما التزاوج بين الشاب المصري والفتاة الفلسطينية الذي حدث مع نهاية الفيلم إلا دليل على امتزاج الشعبين وزيادة أواصر المحبة بينهما.

 

ثانياً: كشف "أرض الأبطال" على نحو جيد، الكارثة الإنسانية التي عاشها المهجرون الفلسطينيون بعدما فقدوا ذويهم وأراضيهم وبيوتهم وتجارتهم وبياراتهم، وعاشوا في شتات يبحثون عن وطن وعن هوية، على حد وصف الشاعر السوري نزار قباني في قصيدته الشهيرة "أصبح عندي الآن بندقية " التي تغنت بها أم كلثوم العام 1969. هؤلاء المهجرون الذين تتجدد مأساتهم حتى اليوم بحيث تكاد تتبخر معها مسألة حق العودة، خصوصاً في ظل ما تحاوله إسرائيل حالياً من تهجير قسري لسكان غزة كي يعبروا الحدود إلى الأراضي المصرية واعتبار شبه جزيرة سيناء وطناً بديلاً لهم.

 

الابن والأب بعد أن فقد بصره

الابن والأب والعينان المطفأتان

 ثالثاً: إذا كانت هناك أفلام قد تماست بدرجة او بأخرى مع القضية الفلسطينية حتى من قبل قيام دولة إسرائيل أو بعد قيامها مثل: شادية الوادي، قلبي وسيفي، نادية، فتاة من فلسطين، فإن جميعها كانت في الفترة ما قبل قيام ثورة 23 يوليو 1952. أما فيلم "أرض الأبطال" المعروض في 20 نيسان/أبريل 1953 فهو أول فيلم يُنتج ويصوّر ويعرض بعد قيام الثورة، ما أتاح قدرًا أكبر من الحرية في تناول أسباب ما حدث في فلسطين، فضلاً عن أن توقيت عرضه في نيسان 1953 يعنى أن أسرة الفيلم شرعت في إعداده وتصويره خلال الأشهر الأخيرة من العام 1952 مدفوعة بحالة الحماس الثوري الذي بثته فيهم حركة الضباط الأحرار منذ لحظة إعلان بيان الثورة صبيحة  23 يوليو، والذي أشار إلى أن ما جرى في حرب 1948 بفلسطين كان أحد الدوافع القوية داخل أبناء الجيش لتطهير أنفسهم والقيام بالثورة.

 

رابعاً: هذا هو أول فيلم تحدث عن قضية "الأسلحة الفاسدة " التي قيل أنها تسببت في هزيمة الجيش المصري في فلسطين، حتى قبل فيلم "الله معنا" المعروض سنة 1955 والذي كتبه إحسان عبد القدوس مفجّر هذه القضية وأول من تحدث عنها صحافيًا. ورغم أنه كان مقبولًا دراميًا أن يدفع الابن ضياع نور عينيه ثمناً لخيانة والده الذي كان يتاجر في الأسلحة الفاسدة ويدفع بها إلى جبهة القتال، إلا أنني آخذ على الفيلم اختزاله أسباب الهزيمة في موضوع الأسلحة الفاسدة وإهمال عوامل أخرى أدت إلى هزيمة الجيوش العربية مجتمعة. وبصرف النظر عما تكشف لاحقًا من تهويل بشأن قضية الأسلحة الفاسدة، فإن تلك النغمة كانت هي السائدة وبقوة في السنوات الأولى لقيام ثورة يوليو، للتدليل على هول الفساد الذي كان مستشرياً داخل الجيش بل وفي الحياة السياسية قي مصر بوجه عام كمبرّر قوي لتحرك الضباط الأحرار والقيام بثورتهم.

 

أرض الابطال

 

خامساً: ظل الاعتقاد سائدًا حتى اليوم ومع عدم الالتفات إلى هذا الفيلم، بأن سلسلة أفلام إسماعيل ياسين عن الجندية والتي بدأت بفيلم "إسماعيل ياسين في الجيش" سنة 1955، كان لها الفضل السينمائي الأول في تقديم صورة حياة الجندية في الشاشة، بينما واقع الأمر أن هذا الفيلم كان سابقًا على كل أفلام إسماعيل ياسين في هذا الهدف النبيل، بل إن الصورة التي عكسها "أرض الأبطال" كانت أكثر جدية ورزانة في التأكيد على بعض ثوابت الجندية المصرية مثل المساواة بين الغني والفقير والانضباط وروح التضحية وتغليب المصلحة الوطنية على أي اعتبارات أخرى، وهي ذاتها القيم التي أكد عليها فيلم آخر قبل هذا الفيلم هو "قلبي وسيفي" الذي أخرجه جمال مدكور سنة 1947. 

 

وانطلاقاً من هذا كله، فإن الهدف من تقديم فيلم "أرض الأبطال" في توقيت عرضه – 1953 – كان يتجاوز حدود المتعة والتسلية إلى أبعاد أكثر وطنية، ومن هنا تأتي أهميته في سياقه الزمني ومحتواه الدرامي على الرغم من بعض المآخذ الفنية التي وقع فيها مخرجه نيازي مصطفى.

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث