في أروقة البيت الجامعي المتعدد الاختصاصات لعلوم الإنسان – الألزاس (MISHA) في ستراسبورغ، يتنقّل الزوّار هذه الأيام بين ألواح زجاجية وصور فوتوغرافية لم تُعرض من قبل.
المعرض المثير، الذي يحمل عنوان «بحثًا عن الشرق – مصائر متقاطعة لعلماء آثار خلال فترة ما بين الحربين»، يكشف للجمهور وجوهًا وأماكن ظلّت حبيسة الأرشيفات الجامعية لعقود، لكنها وبمحض الصدفة خرجت من المستودعات المعتمة إلى الضوء بعدما عُثر عليها خلال عملية جرد للمحتويات.
بين الماضي والحاضر، بين ستراسبورغ وبعلبك وتدمر، تُفتحُ هنا نافذة نادرة على حقبة كان فيها الشرق مسرحًا لرحلات علمية وفضاءً لممارسات فوتوغرافية شكّلت جزءًا من الخيال الأوروبي. الصور التي تعود إلى قرن مضى، تذكّرنا بأن الأرشيف ليس مجرد ورق أصفر أو زجاج هش، بل شهادة حيّة تحمل في طيّاتها سرديات متقاطعة: سردية الأوروبيين الباحثين عن تراث قديم، وسردية سكان الشرق الذين ظلّت وجوههم وأمكنتهم في خلفية تلك الصور.
تقود الصور الزائرين إلى أجواء الحفريات والرحلات اليومية التي قام بها أربعة من أبرز علماء الآثار الفرنسيين: بول بردريزيه، هنري سيريغ، دانيال شلومبرغر، وألبير غابرييل. وهم الذين ارتبط عملهم بجامعة ستراسبورغ وبالمدرسة الفرنسية في أثينا، وكان لهم دور مركزي في تأسيس وإدارة المعاهد الفرنسية للبحث الأثري في تركيا وسوريا ولبنان وأفغانستان خلال المرحلة ما بين الحربين العالميتين. وعليه فإن الصور المعروضة هنا لا تقدم مشاهد نادرة فحسب، بل تعيد أيضًا سرد حكاية جيل من المستكشفين الذين جمعوا بين العمل الميداني العلمي وشغف الاكتشاف، في مرحلة تاريخية مضطربة شكّلت ملامح علاقة الغرب بالشرق.
أُعدت محتويات المعرض بإشراف الباحثتين جيرالدين ماستيلي فايسروك وماريا نوسيس، بعدما جُمعت هذه الصور ضمن كتاب/كاتالوغ نُشر في سلسلة "التراث الفوتوغرافي" التي تشرف عليها المدرسة الفرنسية في أثينا، في إطار مشروع مهم يهدف إلى إتاحة الأرشيفات البصرية عن الشرق للجمهور المهتم.
المدرسة الفرنسية في أثينا، التي تأسست العام 1846، لعبت دورًا رائدًا في دراسة الحضارات القديمة وحفظ آثارها. ولم يقتصر نشاطها على التنقيب الأثري، بل شمل أيضًا جمعًا وتصنيفًا منهجيًا للأرشيفات: رسوم، مخططات، نقوش، وصور فوتوغرافية التُقطت في الحقول الأثرية وفي القرى والمدن المحيطة بها. ومع مرور الزمن، تحولت هذه المادة البصرية إلى ذاكرة جماعية للمغامرة العلمية الفرنسية في المتوسط والشرق الأدنى.
ومنذ أكثر من عقد، أطلقت المدرسة مشروع "التراث الفوتوغرافي" الذي يهدف إلى إعادة إحياء هذا الأرشيف وإتاحته للباحثين والجمهور عبر معارض وكتب متخصصة. وقد صدرت كتالوغات عن مواقع مثل ديلوس وتاسوس وفيلبّي، وصولًا إلى المشروع الراهن الذي يعرض صورًا مجهولة اكتُشفت في جامعة ستراسبورغ.
هذه المبادرات لا تعيد فقط إحياء تاريخ علم الآثار الفرنسي، بل تضع بين أيدي الجمهور والمتخصصصين مادة نادرة لفهم كيفية تشكّل النظرة الأوروبية إلى الشرق، وكيفية تصويره وتوثيقه في مرحلة شديدة الحساسية من القرن العشرين. كما تُظهر كيف ارتبطت الممارسة الفوتوغرافية بالبحث العلمي: فالصورة لم تكن مجرد تذكار، بل وسيلة لتوثيق الحفريات، لتثبيت الملاحظات، ولإقناع الوسط الأكاديمي والجمهور بجدوى الاكتشافات. لذلك فإن عرض هذه الصور في ستراسبورغ، المدينة الجامعية ذات التقاليد العريقة، يُعيد وضع البحث الأثري في مكانه كجزء من التراث الأوروبي المشترك. وهو يذكّر الفرنسيين والأوروبيين عامة بجذور هذا الاهتمام، ويفتح النقاش حول معنى الأرشيف ودوره في صياغة الذاكرة المشتركة، إذ يشكّل هذا العمل جزءًا من هوية ثقافية وعلمية طويلة. ففرنسا لم تكن فقط قوة سياسية في الشرق زمن الانتداب، بل كانت أيضًا حاضنة لمشاريع علمية ضخمة امتدت من آسيا الصغرى حتى ضفاف الفرات.
لكن هذه الصور لا تهم الأوروبيين وحدهم، بل تحظى أيضًا باهتمام سكان الشرق. فهي نافذة على الماضي القريب، على المدن والأرياف كما كانت تُرى قبل قرن تقريبًا، وعلى لحظة تاريخية صاخبة امتزج فيها الاحتلال العسكري بالبحث العلمي. ولعل إظهار هذه الوثائق اليوم يسمح بإعادة قراءة التاريخ من منظور مختلف يعترف بالدور الذي لعبه العلماء الأوروبيون، لكنه يتيح أيضًا فرصة لرؤية الناس والأماكن في صورهم الأصلية، بعيدًا من الروايات الرسمية أو الذاكرة المتنازع عليها.
بهذا المعنى، يصبح المعرض جسرًا بين ضفتين: فهو يكشف للأوروبيين كيف صُوّر الشرق، ويتيح للشرقيين فرصة لرؤية كيف رآهم الآخرون في زمن مضى، مما يفتح الباب أمام حوار جديد حول الذاكرة والتمثيل والهوية.
ويتميّز المعرض أيضًا بطابعه التفاعلي. فإلى جانب اللوحات الفوتوغرافية، تتاح للزائر نصوص تعريفية وكتالوغ باللغات الفرنسية والإنكليزية واليونانية، فضلًا عن جولات إرشادية مجانية مخصّصة للجمهور والطلاب. هذا البعد التربوي يعكس رغبة المنظمين في جعل الأرشيف حيًا وقابلًا للنقاش، لا مجرد بقايا محفوظة في خزائن.
كذلك، ارتبط افتتاح المعرض بيوم دراسي بعنوان "الاستشراق العلمي والصورة الفوتوغرافية في ستراسبورغ"، ما وضع المشروع في إطار نقدي واسع: فالمسألة لم تعد مجرد عرض صور جميلة أو نادرة، بل مساءلة علاقة الاستشراق بالمعرفة وبالتمثيل البصري، وما يعنيه ذلك في ظل النقاشات الراهنة حول الإرث الاستعماري والذاكرة المشتركة.
استعادة هذا الإرث اليوم ليست فقط تكريمًا لعلماء آثار غابرين، بل أيضًا دعوة للتأمل في معنى التراث المشترك، وفي الحاجة إلى بناء جسر جديد بين الضفتين، حيث يصبح الماضي نقطة انطلاق لحوار أكثر توازنًا وعدلًا.
