تعرَّفنا على الروائي والمسرحي التشيكي إيفان كليما، الذي توفي السبت الماضي 4 أيلول، عن 94 عاماً، من خلال رائعته "حب وقمامة" بترجمة الحارث النبهان، دار التنوير2012. تلك الرواية التي يتسلل فيها النثر إلى القلب كما يتسلل الضوء إلى زوايا غرفة معتمة. نثرٌ سلس ومتدفق وحيوي، لا يكتفي بسرد الحكاية بل يصنعها من التفاصيل اليومية، من الهامشي والمهمَل والمسكوت عنه. في هذا العمل تتجلى قدرة الكاتب التشيكي الكبير على تحويل العادي إلى استثنائي، والظل إلى مركز إشعاع. فـ"حب وقمامة" ليست مجرد رواية عن عامل نظافة أو كاتب يعيش انكساراته في زمن الشمولية القاحلة إبان الحقبة السوفياتية، بل هي تأمل طويل في معنى الوجود، في هشاشة الكائن الإنساني أمام قسوة عالمنا المعاصر، وفي قدرة الأدب على إنقاذ المعنى من تحت ركام الواقع.
أدب إيفان كليما يؤلم مثله مثل أي أدب عظيم. يأتي من سلفه كافكا الذي كتب في إحدى رسائله إلى صديقه أوسكار بوهر أن "الكتاب يجب أن يكون الفأس التي تحطم البحر المتجمد في داخلنا"، فالكتابة الجميلة هي التي تكسر الجمود.
من خلال كليما رأينا الشعر في الرواية، وكانت الرواية على حواف اليوميات وأدب الهامش. لنقل إنه أدب الظل الذي سطع على المتن واحتواه. هذه العبارة تختصر روح تجربة كليما كله، فهو كاتب عاش بين الضوء والظلال: في براغ التي هي مدينة مزدوجة الوجه، مسكن اللهب والانطفاء، كما في نفسه التي حملت آثار القمع الأمني والمنفى والسجن. أدبه لا يصدر عن مركز السلطة، بل عن التجربة الفردية الفريدة التي تقاوم الصمت وترفض الحياد بارد القلب، وتصرّ على أن تحكي رغم القمع، وعن الإنسان الذي يظل يحلم بالكرامة المستحقة أبداً.
في "حب وقمامة" يُعيد كليما تعريف البطولة. بطله ليس ثورياً ولا متمرداً خارقاً، بل رجلاً بسيطاً، عامل نظافة يحمل في داخله وعياً عميقاً وروحاً متأملة. هذه المفارقة هي ما يمنح النص عمقه الإنساني. فبينما يجمع البطل النفايات من شوارع المدينة، يلمح جمالًا في العابرين، ويكتب في ذهنه تأملات عن الحب والموت والحرية. كأن الرواية تقول: لا شيء تافهاً في هذا العالم، ولا شيء يستحق الإقصاء من اللغة، أي أنه لا مواضيع حصرية للأدب والكتابة.
هذه القدرة على نهل الشعر مما هو عادي، وترسيخ المعنى من الفوضى السائلة، هي ما يجعل كليما قريبًا من كتّاب مثل ميلان كونديرا وهرابال، ومحمد شكري في تحفته الأدبية "الخبز الحافي"، لكنه يحتفظ بخصوصيته. فبينما ينزع كونديرا إلى الفلسفة الوجودية وتحويل الراوية إلى مبحث فكري، يبقى كليما مشدوداً إلى المحلي، إلى براغ المادية والرمزية معًا. مدينته ليست خلفية للحدث، بل كائناً حياً، يتنفس ويعاني، ويتحول إلى مرآة تعكس نفس الكاتب. أما أسلوبه فيجمع بين الوضوح والتأمل، بين السرد الخشن والتداعي الذهني، حتى يخال القارئ أنه يقرأ مذكرات شاعر أكثر مما يقرأ رواية.
يمكن القول إن كليما يكتب من مسافة هي البعد الحميم: مسافة مشرقة بين الذات والعالم، بين الكاتب والمجتمع، بين القسوة والرأفة. فهو ابن تجربة تاريخية قاسية — عاش الاحتلال النازي وهو طفل، ثم عايش النظام الشيوعي وقمعه الثقافي — ما جعله يؤمن بأن الكتابة ليست ترفًا بل وسيلة للبقاء وحفظ الكرامة البشرية. لذلك، فإن صوته في الأدب التشيكي هو صوت الضمير، كلام الضمير لا صوت الدعاية المضادة. أدبه يتغذى من التجربة الشخصية لكنه يتجاوزها نحو سؤال الإنسان: كيف يمكن للروح أن تظل شجاعة حرّة وهي محاصرة بالشر وسجينة التفاهة؟ وكيف يمكن للكلمة أن تُعيد ألق المعنى إلى عالمٍ يوشك على فقدانه؟
الأسلوب الخاص
في كل أعماله، لا يتحدث كليما عن البطولة التقليدية بل عن بطولة البقاء، عن مقاومة الانكسار الصغير اليومي. شخصياته ليست مثالية، بل قلقة ومترددة ومليئة بالتناقضات. لكنها تمتلك ما هو أثمن من الحسم والجزم والشعار: تمتلك الوعي. وهذا الوعي هو ما يمنحها جمالها المأسوي. فحين يقف بطله في "حب وقمامة" أمام تلال النفايات، لا يرى قبحها بل يرى في داخلها صورة الإنسان الذي يخلق الجمال من العدم. هكذا تتحول الرواية إلى ما يشبه مرثية للعصر الحديث، وإلى نشيد للأمل في أكثر الأماكن عتمة.
أسلوب كليما يقوم على التوازن الدقيق بين الفكرة والعاطفة. لغته ناعمة لكنها مشبعة بالحس الفلسفي. جُمَله تتدفق كأنها كتابة يوميات لكنها تخفي تحت بساطتها عمقًا تأمليًا كبيرًا. ومن خلال التقنية هذه، ينجح في أن يجعل القارئ شريكًا في التجربة لا مجرد متفرج عليها. كأن كل قارئ يجد في صفحات كليما شيئًا من حياته الشخصية، من أسئلته التي لا جواب لها. لهذا يمكن القول إن كليما لا يكتب عن الآخرين، بل يكتب عنا جميعًا.
ولأن كليما يؤمن بأن الأدب ينبغي أن يظل شاهدًا لا واعظًا، فهو يبتعد عن الشعارات ويميل إلى الصمت التأملي. في نصوصه، الكلمة تُكتَب لتُفكَّر، لا لتُصفَّق لها. وربما لهذا السبب ظلّ أدبه محتفظًا بقدر من الظل حتى وهو يُقرأ عالميًا. لم يتحول إلى ظاهرة إعلامية، بل بقي صوتًا هادئًا وعميقًا يُقرأ ببطء، كأن القارئ يسير معه في شوارع براغ المبللة بالمطر، يستمع إلى وقع خطواته في الليل، ويشارك في تأمله العابر حول ما يبقى وما يزول.
والحديث عن "حب وقمامة" يقودنا إلى الحديث عن مجمل تجربة كليما بوصفها تجربة في المصالحة مع الحياة رغم انكساراتها. فهو لا يدين العالم، بل يفهمه. لا يثور على القبح بقدر ما يحاول تحويله إلى جمال، كما لو أن الكتابة عنده هي محاولة لتنظيف الوجود لا من أوساخه المادية، بل من نفايات الروح. وهنا تكمن قيمته الكبرى: في إيمانه بأن الأدب ليس سلاحًا ولا شعارًا، بل طريقٌ هادئ نحو الحقيقة الإنسانية.
يُعدّ إيفان كليما أحد أبرز وجوه الأدب التشيكي المعاصر، وكاتبًا حمل همّ الإنسان في زمن الأيديولوجيات والانكسارات.
بطاقة حياة
إيڤان كليما (Ivan Klíma) هو كاتب وروائي تشيكي بارز، وُلد في براغ العام 1931. يُعد من أبرز الأدباء الذين عايشوا تقلبات القرن العشرين في أوروبا الشرقية، حيث أثرت الحرب العالمية الثانية والنظام الشيوعي اللاحق في تجربته الأدبية والإنسانية. سجن في طفولته مع أسرته في معسكر تيريزين النازي بسبب أصوله اليهودية (1941ـ1945)، مما ترك أثراً عميقاً في كتاباته لاحقاً. بعد الحرب، درس الأدب في جامعة تشارلز ببراغ، وعمل صحافياً ومحرراً أدبياً. انخرط كليما في حركة “ربيع براغ” 1968، التي قوبلت بعنف ودماء وعُرف بمواقفه المعارضة للرقابة والتسلط السياسي البوليسي، ما أدى إلى منعه من النشر داخل بلاده لسنوات طويلة. رغم ذلك، واصل الكتابة سرّاً، ونُشرت أعماله في الخارج. تتميز رواياته بالبعد الإنساني والفلسفي، إذ تتناول قضايا الحرية، المسؤولية الأخلاقية، والعلاقات بين الفرد والسلطة.
من أبرز مؤلفاته:
ـ "حب وقمامة" 1988 روايته الأشهر والأكثر ترجمة.
ـ "لا قديسون ولا ملائكة" ترجمتها إلى العربية إيمان حرزالله (دار التنوير)
ـ "روح الزمن" مجموعة قصصية تمزج اليومي بالفلسفي.
ـ "الملاك" و"قصة زواج" نصوص تستكشف العلاقات الإنسانية في ظل العزلة الحديثة
ـ "قضية المريض الدكتور كوبر"
كما كتب سيرته الذاتية تحت عنوان "عالمي الخاص" التي توجز تجربته ومسار حياته مع القمع والأمل.
