تعيش سوريا أزمة مياه عامة، وقد لمست ذلك، خلال زيارتي الأخيرة إلى دمشق وحلب في حزيران الماضي. تنقطع مياه الشرب عن البيوت عدة أيام، ولا تحضر إلا بمعدل يومين في الأسبوع، ولساعات معدودة، ويعود سبب ذلك في دمشق إلى ظروف مناخية، وسوء تصرف النظام السابق، سواء باستنزاف، وسوء ترشيد الاستهلاك، أو عدم صيانة الينابيع الطبيعية، الواقعة في أغلبها، ضمن منطقة وادي بردى، الخزان الذي يغذي دمشق بالماء. أما في حلب، فهي ترجع إلى الخلاف مع قوات سوريا الديموقراطية "قسد"، التي تسيطر على محطات تزويد المدينة بالماء من نهر الفرات.
وجود أزمة من هذا القبيل في الحسكة عمرها أعوام عديدة، هو أمر لا يبعث على الاستغراب، بعد جفاف نهر الخابور منذ أكثر من عشرين عاماً. لكن هناك سؤالاً جوهرياً لم يُجب عنه أحد حتى الآن، بصورة علمية ومقنعة، حتى يُبحث عن حلول مستدامة لأكثر من مليون شخص يعيشون على ضفافه، يعتمدون في حياتهم عليه، هو مصدر ماء الشراب وسقاية الحيوان والنبات، ولا سيما زراعة القطن والقمح.
يتعلق السؤال بجفاف نهر الخابور، الذي كان معدل تدفقه الطبيعي 50 مليون متر مكعب في الثانية. ويشكل ذلك غزارة مهمة جداً كانت كافية لإرواء مساحات شاسعة على امتداد مجراه البالغ نحو 200 كلم، من منطقة رأس العين على الحدود السورية التركية إلى مدينة البصيرة حيث يصب في نهر الفرات.
هناك آراء عديدة متداولة حول أسباب جفاف النهر، ليس من بينها ما يقنع؛ بل إنها جميعاً، تحاول أن ترمي الأمر على ظهر السياسة، والخلافات التي عاشتها المنطقة في العقود الأخيرة. النظام السابق حمّل تركيا المسؤولية، وشاركته هذا الاتهام جماعات كردية، على أساس استخدام المياه سلاحاً سياسياً. والمعارضة السابقة رمتها على ظهر نظام عائلة الأسد، الذي استنفد الموارد المائية على نحوٍ غير عقلاني.
يمكن أن تصح الاتهامات كافة، ولكنها لا تفيد في تشخيص حل المشكلة، التي باتت راسخة وتتمدد. النظام خرج من المعادلة، وحل محله نظام جديد صديق لتركيا، في حين بقيت الخلافات بين تركيا وبعض الأحزاب الكردية. ومن المؤكد أن حل الخلافات السياسية سوف يؤدي إلى تسوية جزئية للمشكلة. والمقصود أن مياه الخابور في حال تفاهم المتنازعين، لن ترجع إلى التدفق كما كانت عليه في الماضي، لكن سماح تركيا بجزء من المياه في سدودها للتدفق نحو سوريا، سوف يضع حداً للمشاكل العاجلة، وهي توفير مياه الشرب، والزراعة المروية شريطة ترشيد الاستهلاك، واستخدام الطرق الحديثة بالري.
الخطوة الأولى هي اقلاع "قسد" عن أخذ الحسكة رهينة في خلاف حزب العمال الكردستاني التركي مع الحكومة التركية. لقد حل الحزب جزءاً من مشاكله داخل تركيا، عن طريق تسليم السلاح، لكنه لا يزال يسيطر على القسم الأكبر من منطقة الجزيرة السورية، محافظتي الرقة والحسكة بالكامل، وجزء من محافظة دير الزور. وما لم تُسوّى المسائل السياسية بين الطرفين، فإن الجزيرة لن تعود إلى وضعها الطبيعي، ليس على مستوى المياه فقط؛ بل كل شيء، بما في ذلك التعليم، حيث قررت "قسد" منهاجاً دراسياً يناسب رؤيتها السياسية والثقافية، ولذلك أغلقت الأسبوع الماضي ست مدارس تابعة للمكوّن السرياني والمسيحي في مدينتي الحسكة والقامشلي بالقوة، ذلك بعد طرد الطلاب والكوادر الإدارية منها، إثر رفض الكنائس قبل هذه الخطوة مقترح "الإدارة الذاتية" القاضي بتدريس مناهجها الخاصة، وشرطًا آخر يقصر قبول الطلاب على أبناء المكون المسيحي فقط مقابل السماح بفتح المدارس.
لا يمكن العمل على إخراج الجزيرة من الحال المزرية إلا عبر عدة خطوات. الأولى تفاهم تركيا والكردستاني، على أساس أن حل مشكلة أكراد تركيا مفصولة كلياً عن مشكلة أكراد سوريا، الأولى تُحلّ داخل تركيا، والثانية في سوريا. ثانياً عودة الجزيرة إلى الدولة، التي يجب أن تتحمل مسؤوليتها عنها بوصفها جزءاً من سوريا، وهنا لا بدّ من إخضاع هذه المنطقة إلى نمط من التمييز الإيجابي، كونها عانت لزمن طويل من التمييز السلبي، في عهد السلطات السابقة، منذ الاستقلال. ثالثا التفاهم بين سوريا وتركيا على التنمية المشتركة للمنطقة، التي لا يمكن النهوض بها من دون توفير المياه، التي تتحكم بها تركيا. وقد نوقش هذا الأمر في مرحلة سابقة، لكن التطورات السياسية حالت دون تنفيذه.
عرضت قناة بي بي سي العربي ريبورتاجاً مصوراً عن مشكلة المياه في الحسكة، يعبر عن الوضع الصعب للمدينة بسبب عدم توفر مياه الشرب والاستحمام النظيفة، وبوجهٍ خاصّ في فصل الصيف، ويتجاوز الفيلم وضع المياه ليشاهد المتابع فشل الإدارة الذاتية التي استلمت المنطقة من النظام السابق منذ أكثر من عقد، ولكنها لم تقم بما يفيدها، بالرغم من أنها تسيطر على مواردها الاقتصادية من نفط وغاز، ومنتوج زراعي وثروة حيوانية.
