توفي الروائي غابرييل غارثيا ماركيز في العام 2014، وقبل وفاته كتبَ وصيةً، نُشِرت وقتها في الميديا على نطاق واسع. كتبَ ماركيز في وصيّته:
"لو شاء الله أن يَهَبَني شيئاً من حياة أخرى، فسأستثمرها بكلّ قواي. ربما لن أقول كلّ ما أفكّر به، لكنّني حتماً سأفكّر في كلّ ما سأقوله. سأمنح الأشياءَ قيمتَها، لا لِما تمثّله، بل لِما تعنيه. سأنام قليلاً، وأحلم كثيراً، مدركاً أنّ كلّ لحظة نُغلِق فيها أعينَنا تعني خسارة ستّين ثانية من النور"*.
وأضاف في الوصيّة، موجّها الكلام إلى نفسه:
"لأنّ الغد ليس مضموناً، سواء لشابّ أو مُسِنّ، ربما تكون في هذا اليوم المرّة الأخيرة التي ترى فيها أولئك الذين تحبّهم، فلا تنتظر أكثر. تصرّف اليوم لأنّ الغد قد لا يأتي ولا بدّ من أن تندم على اليوم الذي لم تجِد فيه وقتاً من أجل ابتسامة، أو عناق، أو كنتَ مشغولاً كي تُرسِلَ لهم أمنيةً أخيرة".
وكان ماركيز قد أنهى إبداعَه الروائي بكتابة سيرته المفصَّلة، المنشورة تحت عنوان "عشتُ لأروي" العام 2002. ولربما كانت السّيرة نهايةً مقبولة من الكاتب. أما أن يكتب وصيةً، فهذا ما قد لا يكون مقبولاً لسبب واحد: إنّ وصيّته تبدو كأنّها لكاتب بلغ حدّاً من التفوّق لا يريد التنازلَ عنه لغيره، بل كأنّه يريد التشبّث بالحياة بأيّ ثمن، حتى لو كان ذلك بتثبيت وصايته على الآخرين. نعم، كتبَ ماركيز وصيّةً بصيغة الوصاية.
لا يحقّ لكاتب أن يكون وصيّاً على الآخرين، سواء أكان هذا في حياته، أو بعد مماته. لقد عاش ماركيز حياتَه بامتلاء ورواها بغزارة سرديّة باهرة. فما جدوى الوصيّة، بعد هذا القسط المديد من الحياة (عُمّر ماركيز سبعةً وثمانين عاماً) وكأنّ صاحبها أراد أن يقتطع من حياة الآخرين زيادةً لعمره؟
وفي تصريح مبكر، قال ماركيز إنّ أغلب رواياته تستمدّ حوادثَها من سنين الطفولة، فإذا تعدّت روايةٌ ما تلك السنين استفاضت منها سيلاً من ذكريات. وبسبب ذلك التحديد الذاكراتي، بدَت روايات ماركيز وكأنّها نُسَخ متعدّدة من رواية واحدة. ومن قرأ روايته "مئة عام من العزلة" يتذكّر افتتاحَها بهذه الجملة: "بعد سنوات طويلة، وأمام فصيل الإعدام، سيتذكّر الكولونيل أوريليانو بوينديا ذلك المساءَ البعيد، عندما أخذَه فيه أبوه للتعرّف على الجليد". والرواية بأجمعها تدوير شكليّ لهذه الجملة الافتتاحية، بل إن أيّ رواية جديدة كتبَها كانت تحاول الإمساكَ بلحظة الطفولة تلك..
أمّا الشاعر الفرنسي آرثر رامبو فقد اكتمل بنيانُه الشعريّ في سنّ التاسعة عشرة من عمره، أمّا سنواته التالية فقد قضّاها متنقلاً خارج منطقة الشّعر. إنّها فائض العمر الإبداعي الذي ترك أمرَ تدوينه لكتّاب سيرته الذاتية. ومَن لا يعرف أنّ شاعرنا محمود البريكان (1931- 2002) قد بلغ مرادَه من الشعر في بضع سنوات- من نهاية العقد الخامس حتى نهاية العقد السادس من القرن العشرين- وأنّ أفضل قصائده، بل ذروة التوقّد الشعري للبريكان حصلت في السنوات العشر الوسطى من عمره؟
وقد يوافقني أكثر من ناقد ومؤرّخ أدبيّ على أنّ تألّق فؤاد التكرلي الأدبي اقتصر على صدور مجموعته القصصية الوحيدة "الوجه الآخر" في العام 1960 -حينما كان في سنّ الثالثة والثلاثين من عمره- وبضع قصص قصيرة ألحقها بمجموعته القصصية الكاملة فيما بعد، وليس في الروايات التي ابتدأها برواية "الرجع البعيد" في العام 1977؛ وكلّها "ترجيع" مفصّل وبعيد لقصصه فريدة النوع في السّرد العربي. وأمثال فؤاد التكرلي أدباء عراقيون عُرِفوا بأصحاب المجموعة القصصية الواحدة- عبد الملك نوري ومحمود عبد الوهاب ونزار عباس ومحمد روزنامجي. وأمثال هؤلاء القصّاصين شعراء تألّقوا بديوان شعر واحد شهِدَ صدقَ تجاربهم الشعرية من دون الدواوين الأخرى.
وعلى هذه الأمثلة، يبدو أن الكُتٌاب يعيشون حياةً فائضة بعد انتهاء توقّدهم الذاتي، في فترة عمريّة قصيرة؛ وما يكتبونه في فائض العمر الباقي لهم من الحياة، تُبدعه الذاكرةُ بدلاً منهم. وبموجب هذا الاستنتاج، فإنّي انتهيت من معاناتي الذاتية في كتابة قصصي مع نهاية العقد الثالث من عمري، وما تبقّى من قصص غير مكتوبة آنذاك تولّت ذاكرتي استحضارَ حوادثها بحسب آليّة لم تكن لي إرادة في ترتيبها واستمرارها. وحين تأملّتُ هذه الحقيقة وجدتُ تفسيراً للنسبة غير المتكافئة في إنتاجي القصصي، أي ندرتها في العقود الأولى، وغزارتها في العقود الأخيرة.
لتلك الأسباب، لم تُلزمني حياتي الأدبية بتذويت سيرةٍ لها، أو بترك وصيةٍ أختمُ بها الفاصلَ الأخير من عمري الحقيقي، لكنّي حاولتُ ترتيب عمل ذاكرتي المتراجعة إلى البدايات في مجموعة "كتاب العقود" المنشورة عام 2020، فوزّعت حصيلةَ تلك المحاولة في تسعة عقود. قدّمت في العقد الأول نصوصاً افتراضية ترتكز عليها نصوص العقود التالية. وحوى الفصلان: الثاني والثالث تجاربَ الحياة الواقعية حصراً. أمّا الرابع والخامس والسادس والسابع فلم تكن غير امتدادات قصصية خيالية للفصول الأولى. حتى إذا حلَّ الفصلان الثامن والتاسع، وهما افتراضيان كالعقد الأول، ظهرت الذاكرة في حالة من الخلوّ والبطلان، فلم أعتصر منها إلا نصوصاً "من تحت الأرض" وأخرى "تجارب في الموت". ذلك ما أتاحته عقودُ الذاكرة، تداعتْ وعتُقتْ مثل جدران قديمة، في بنيان حافظتُ على بقائه بمعجزات الزمن الضائع من حياتي ومصادفاته العجيبة.
(*) مدونة نشرها القاص العراقي محمد خضير في فايسبوكه
(*) يقال أن هذه الوصية منتحلة، ولكنها نمذجت أفكاره وأبدعت في التعبير عنها!
