متحف مارك شاغال: متاهة الضوء واللون

أسعد قطّانالأحد 2025/10/05
مارك شاغال
لا يقارب شاغال النصوص الدينية على نحو نقلي
حجم الخط
مشاركة عبر

من النادر أن تكون فنّاناً تشكيليّاً، وأن تشهد، وأنت بعد على قيد الحياة، تأسيس متحف يحمل اسمك. مثل هذا لم يتّسنَ، مثلاً، للعظيم فان-غوخ (1853-1890)، الذي كاد يمضي حياته مستجدياً المعونة على بيع لوحاته، وغالباً ما كان يضطرّ إلى التخلّي عنها بأثمان بخسة. أمّا المتحف الذي يحمل اسمه في أمستردام، فلم يُفتتح إلّا بعد مضيّ نيّف وثمانين عاماً على موته. لم يكن هذا نصيب بابلو بيكاسّو (1881-1973)، إذ عاصر تأسيس أوّل متحف يحمل اسمه في برشلونة العام 1963. لكنّ الرسّام المجنون، الذي مهر بخاتمه فنّ القرن العشرين كما لم يفعل أيّ فنّان آخر، كان يعيش آنذاك في فرنسا، لا في إسبانيا، وطنه الأمّ.

 

مارك شاغال

 

يُعدّ متحف مارك شاغال (1887-1985) في نيس، المدينة المغناج التي تعانق المتوسّط، أوّل متحف يتأسّس في فرنسا على اسم فنّان تشكيليّ يعيش فيها. حين وضعت الحرب العالميّة الثانية أوزارها، قرّر شاغال، الهارب إلى الولايات المتّحدة من جور الاضطهاد النازيّ، العودة إلى فرنسا. ثمّ لازمها، بعد جولة له في أوروبّا، إلى أن مات ودُفن فيها. هناك، عاش الرسّام في الجنوب المتوسّطيّ، الذي استقطب تشكيليّين آخرين مثل بيكاسّو وهنري ماتيس (1869-1954) جمعتهم علاقة يمكن توصيفها على أنّها جدليّة بُعد وقُرب، إذ اتّسمت بشيء من الحسد والمنافسة بالرغم من أنّهم كانوا يعملون أحياناً سويّاً. في أيّ حال، كان بيكاسّو يقول عن شاغال، هذا اليهوديّ الآتي إلى فرنسا ممّا يُعرف اليوم بروسيا البيضاء، أنّه، بعد موت ماتيس، سيكون الفنّان الوحيد في العالم الذي يفقه ماهيّة اللون.

 

مارك شاغال

 

كان مارك شاغال يحلم بأن تحتضن متحفه بلدة سان بول دي فانس، التي قضى فيها نحو تسع عشرة سنة، وهي أشبه بقرية مستلّة من كتاب يؤرّخ للقرون الوسطى في فرنسا، تحيط بها أشجار الزيتون والصنوبريّات. لكنّ اختيار الدولة الفرنسيّة وقع على نيس الجميلة، بعدما قدّمت هذه المدينة قطعة أرض تقوم عليها فيلّا قديمة متهالكة. اضطلع شاغال بدور لا يستهان به في «تشكيل» هذا المتحف، إذ أصرّ على أن يشتمل على قاعة للمحاضرات والحفلات الموسيقيّة زيّن واجهتها الزجاجيّة برسومه الزرقاء والحمراء. كذلك حرص على أن ينطوي متحفه على فسيفساء من تصميمه تمثّل النبيّ الياس محاطاً بالأبراج الفلكيّة. بيد أنّ نواة المتحف تشكّلها مجموعةٌ من الرسوم من الحجم الكبير ذات موضوعات مستمدّة من التوراة، أو العهد القديم بحسب المصطلح المسيحيّ، ولا سيّما كتابي التكوين والخروج. تحضر في هذه الرسوم شخصيّات من القصص الدينيّ مثل آدم وحوّاء وابرهيم وسارة ويعقوب وموسى. ولا يغيب عنها صلب المسيح، الذي يحسب بعض مفسّري أعمال شاغال أنّه يحيل على المحرقة النازيّة. يضاف إلى ذلك تمثيلات لكتاب «نشيد الأناشيد» يغلب عليها الأحمر القاني من حيث كونها تمجيداً للحبّ والحياة.

 

مارك شاغال

 

لا يقارب شاغال النصوص الدينيّة على نحو نقليّ. فهو يؤوّلها باللون مضيفاً إليها تارةً عدداً من العناصر الميثولوجيّة، ومسترجعاً طوراً بعض ما خبره في وطنه الأمّ، الإمبراطوريّة الروسيّة، من معالم الأيقونة البيزنطيّة. ولا يندر أن تصبح ذات الفنّان المحتجبة جزءاً لا يتجزّأ من عمليّة التأويل هذه، بحيث يصعب تفكيك كلّ الرموز التي تطالعنا في اللوحات على نحو متداخل وكثيف. والحقّ أنّ الانطباع الذي يتولّد لدى زيارة هذا المتحف طغيان المساحات اللونيّة عبر ما يقوم به شاغال من تكثيف للألوان الصارخة كالأزرق والأخضر والأحمر والأصفر، محوّلاً إيّاها إلى أمداء تضجّ بمشاعر إنسانيّة كبرى كالفرح والأسى والخوف والحيرة والرغبة والمتعة والانبساط والانقباض

(*) متحف مارك شاغال في نيس عرس للعين والقلب، وسفر غامر في متاهة الضوء واللون.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث