قبل مدة فاز فيلم "صوت هند رجب "بجائزة الأسد الفضي في مهرجان البندقية السينمائي، ثاني أرفع جوائز المهرجان الإيطالي العريق. ويستند الفيلم إلى أحداث واقعية مؤلمة عن مقتل طفلة فلسطينية في الخامسة من عمرها خلال حرب الإبادة الإسرائيلية الجارية على غزة. هنا عودة اليه.
اللافت في الفيلم أن المخرجة كوثر بن هنية تستخدم التسجيلات الأصلية لمكالمة طوارئ من الطفلة الفلسطينية هند رجب، البالغة من العمر خمس سنوات، تلقّتها جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في رام الله في 29 يناير/كانون الثاني 2024. تحدّثت الطفلة لساعات ثلاث مع موظّفي وعمّال الاتصال بالهلال الأحمر، من داخل سيّارة تعرّضت لوابل رصاص من دبّابات إسرائيلية، متوسّلةً إياهم مراراً وتكراراً لإنقاذها قبل أن تموت.
في الفيلم، تتموضع الكاميرا في غرفة الاتصال، حيث يُجسّد الممثلون دور عمّال الهاتف الذين يُشجعون الطفلة باستمرار أثناء محاولتهم إرسال سيارة إسعاف إلى موقعها في حيّ تلّ الهوى. ويكتشفون تدريجياً أن هنداً عالقة في السيّارة مع عدد من أقاربها القتلى.
استخدام صوت طفلة مقتولة في فيلمٍ روائي أحد الأسئلة التي تواجهها بن هنية. كما أن تصويرها لعمل المسعفين يُثبت صعوبة الأمر. يتفوّق الممثلون على بعضهم البعض في شدّتهم، ويكافحون للحفاظ على رباطة جأشهم، ويبدأون بالبكاء وهم يرافقون الفتاة في خوفها. يُحوّل هذا التصوير المسرحي الفيلم إلى دراما عن العمل المُرهق للمسعفين، رغم أن بن هنية لا تبدع أي شخصيات حقيقية؛ فقط منسّق الإنقاذ، مهدي (عامر حليحل)، لديه سمات مأساوية، إذ عليه أن يتصرّف بدقة وفقاً للبروتوكول. يشرح لزميله لماذا لا يستطيع ببساطة إرسال سيارة إسعاف. أولاً، عليه الاتصال بالسلطة الفلسطينية، والتي بدورها تتفاوض مع السلطة الإسرائيلية. الأخيرة فقط هي مَن تتحدث مباشرةً مع الجيش.
يقول المخرج الياباني الأسطوري ياسوجيرو أوزو في فيلم وثائقي بارز: "الحذف وحده يُكمل التمثيل السينمائي للواقع". يُعدّ فيلم "مذكرات أوزو" لدانيال رايم أحد أبرز أفلام قسم "الكلاسيكيات" في مهرجان البندقية السينمائي. يقارن رايم، استناداً إلى دفاتر غير منشورة، بين أعمال أوزو وحياته لما يقرب من ساعتين ونصف، تتخللها تحليلات دقيقة لمعجبين مثل كيوشي كوروساوا وفيم فيندرز. في إمكانية الحذف، التي تُقارن بالفراغ الأبيض في الرسم الياباني التقليدي، كما يوضّح أوزو، يتمتّع الفنّ بميزة واضحة على الصحافة. تعتمد الصحافة - وخاصةً في ما يتعلّق بالحرب - على القيمة الدليلية للصور. إذا كان هذا المهرجان يُقدّم الآن فائزه المُحتمل في فيلمٍ روائي طويل شبه وثائقي عن الضحايا المدنيين في حرب غزة، فإن ذلك يعود أيضاً إلى نبذ المخرجة التونسية كوثر بن هنية للصور. كيف يُمكن إنتاج فيلم روائي طويل عن معاناة السكّان المدنيين في حرب غزة دون الاصطدام بفيض الصور المُتاحة على الإنترنت؟
وُثّق العديد من الضحايا (يزيد عددهم الآن عن 63,000)، ومعظمهم من المدنيين، بصرياً. إلا أن فظاعة هذه الصور غالباً ما تدفع وسائل الإعلام "المرموقة" إلى تجنّبها، حتى عند استخدام مصادر موثوقة. ولكن هناك بعض الأصوات ربما تكون أكثر رعباً، وخاصة تلك التي عثرت عليها المخرجة على خوادم الهلال الأحمر. في 29 يناير/كانون الثاني 2024، توسّلت هند رجب، وهي فتاة فلسطينية في الخامسة من عمرها، إلى موظّفي الهلال الأحمر طلباً للمساعدة عبر الهاتف لمدة ثلاث ساعات. كانت الناجية الوحيدة، محاطة بأقاربها القتلى في سيارة مُصابة بطلقات نارية أطلقتها دبّابات إسرائيلية. تستخدم المخرجة هذا الشريط الصوتي المرعب أساساً لفيلمها الجامع بين الوثائقي والروائي، كعادتها في أغلب أعمالها. أدّى الممثلون أدوار أفراد الطاقم الذين يحاولون تهدئة الطفلة بعد شهادتها وفاة شقيقتها بأم أعينهم. وقد صوّرت المخرجة جهودهم اليائسة لإسعاف الطفلة المحاصرة كفيلم إثارة واقعي، كما يُطلق عليه في تصنيفات الأنواع السينمائية.
يُجسّد الفيلم، الدائرة أحداثه بالكامل في مركز الاتصال، جانباً غير معروف من واقع الحرب بصرياً: إذ يتم تنسيق عمليات الإنقاذ على بُعد 80 كيلومترًا تقريبًا من غزة في الضفة الغربية، دون أي اتصال مباشر مع الجيش الإسرائيلي. لذلك، يجب استشارة الصليب الأحمر بشأن الطرق "الآمنة" التي حدّدها جيش الاحتلال للمسعفين. حينما، بعد ساعات ثلاث، وبعد تحديد الموقع أخيراً وإرسال سيارة إسعاف، انفجرت الأخيرة على بُعد أمتار قليلة من وجهتها، قبل أن ينقطع الاتصال بالفتاة. ينتهي الفيلم بلقطات وثائقية للمركبات المصابة، محذوفة من أي تفاصيل عن الرفات البشرية، بينما تُظهر التترات الختامية صور الشهداء المغدورين.
لا تُذكر الأطراف المتحاربة أو السياقات السياسية في دراما تدور حصراً حول الأبرياء والضحايا المدنيين وعمّال الإنقاذ. ما يُنقل مباشرةً عبر استخدام التسجيل الأصلي لمكالمة الاستغاثة، ويُنقل إلى الجمهور بطريقة مُؤثرة، هو التأثير المُحتمل للصدمة النفسية لهذه الشهادة.
خلال المؤتمر الصحافي، رفضت المخرجة التحفّظات الأخلاقية بشأن استخدام التسجيلات الصوتية؛ مبرّرة ذلك بنشر الأمّ الناجية للتسجيلات: "إذا ضخّمتَ أصوات الفلسطينيين، فأنتَ مُتّهم بالاستغلال - إنها مجرد طريقة أخرى لإسكات أحدهم. ليس لديّ ما أقوله في هذا الشأن". بتجنّبها لقوة الصور، لا تتجنّب المخرجة ردود الفعل الدفاعية فحسب، بل تُعطي السينما مجال تأثير كوسيط في النزاعات الحالية.
المؤكد أن كلمة "تضخيم" التي اختارتها كوثر بن هنية تنطبق على جماليات فيلمها. الإخراج مبسّط لكن بجماليات مُلحّة وعاطفية، فيما التصعيد الدرامي لا يخضع لمبدأ التشويق بقدر توحّد الجمهور مع تكشّف مأساة يعرفون نهايتها مسبقاً. لكن، في الوقت ذاته، أي شيء يمكن قوله عن إسرائيل وفلسطين في مثل هذا الوضع الطارئ لم يجد مكاناً في نصّها. هذا ليس فيلماً دعائياً أو "موضوعياً"، بل عملٌ مُلحّ وضروري، ومن المؤكّد أن تتويجه في "البندقية" سيفسح المجال أكثر فأكثر لإسماع الصوت الفلسطيني، سينمائياً على الأقل، فلا يُمكن لفيلمٍ، أو مهرجان، أن يُساهم في مُكافحة مجزرة كالجارية حالياً. "صوت هند رجب"، على الأقل، يُدين ما يحدث. ويفعل ذلك من خلال فنّ السينما. قصّته مُدمرة، وأفلمتها قوية ومؤلمة. مُكرّسٌ بالكامل لإغراق المُشاهد بشعورٍ خانقٍ بالعجز والسخط، ولا يتردّد في استخدام كلّ ما في وسعه لتحقيق ذلك.
