مراجعة تاريخ العلاقة بين الحزب، ومن خلفه النظام الأسدي، والنقابات العلمية والمهنية، يوضح أن أمور السيطرة عليها لم تكن يسيرة، بل إنها خضعت لجولات من المماحكات، منذ وصول البعث إلى السلطة، لكنها حسمت على عدة مراحل، بين عقدي الستينيات والسبعينات، وبحسب الباحث جورج بيرة فإن المؤتمر السادس عشر لاتحاد نقابات العمال والذي عقد في عام 1968 كان "الذروة التي تم بعدها قفل هذا الاتحاد بشكل نهائي لصالح مؤيدي السلطة السياسية" حيث تغير خلال السنوات التي سبقته مفهوم النقابية، من خلال منع حق الإضراب، وتوصيف الدولة نفسها "بصفتها ممثلة لمصالح العمال والطبقة العاملة حيث لم يعد للنقابة حق معارضتها. وأصبح دور النقابة الجديد هو في عملية الإسهام في تنمية الإنتاج وبناء مجتمع جديد "يحقق أمنيات الشعب العربي في الوحدة والحرية والاشتراكية"(1).
ورغم أن بداية عهد حافظ الأسد، اتسمت بنوع من الانفتاح بين الحاكم الجديد والمؤسسات النقابية، إلا أن محاولات السيطرة على المجتمع السوري كله، أوصلت الطرفين إلى تناقض هائل بينهما، حسمه النظام وفق أسلوبه الخاص. وبحسب المهندس جهاد المسوتي، فإن الوضع السياسي والأمني في سوريا، تطور في نيسان 1980 "حتى وصل إلى نقطة لجأ فيها النظام إلى حل النقابات وفرض حالة الأحكام العرفية عليها مباشرة، ومن ثم اعتقل عدداً من ناشطيها من نقابتَي المحامين والمهندسين، الأمر الذي شلّ النقابات نهائياً وأبعدها عن ساحة الصراع إلى أن أعادها مكبلة بقوانين جديدة في منتصف عام 1981: القانون رقم 26 تاريخ 13/7/1981 لتنظيم مهنة الهندسة، والقانون رقم 39 تاريخ 21/8/1981 لتنظيم مهنة المحاماة، والقانون رقم 31 تاريخ 16/8/1981 لتنظيم مهنة الطب البشري إلى آخر السلسلة من قوانين النقابات المهنية التي تتطابق فيما يخصّ تشكيل النقابة وأجهزتها"(2).
ما طُبق على النقابات العلمية، ونقابة المحامين، فُرض على نقابة الفنانين، وعلى اتحاد الكتّاب العرب، إذ لم تنج أي منظمة مجتمع مدني من سيطرة الأسديين، ومع الوقت صار النقابيون مجرد تابعين يؤمرون فينفذون، ولا يعترضون، وعممت صورتهم الهزيلة لدى الجمهور، وبات من الصعب إقناع السوريين بأن نقباء النقابات ينتخبون ولا يعينون!
الآن، وبعد سقوط النظام، يمكن تلمس حاجة النقابات إلى إعادة هيكلة كاملة، تؤدي إلى فصلها بشكل كامل عن السلطة، وبناء علاقة صحيحة بينها وبين مؤسسات الدولة، فهي جزء من الحراك المجتمعي، الذي يفترض به أن يحافظ على الحياة الديموقراطية، لا أن يلتحق بالحكومات أو الأحزاب، ولا بد أن تصبح قيادة النقابات موضوعاً انتخابياً يتنافس حوله وفيه الأعضاء، وبناء على الحيثيات المهمة نقابياً، وليس سياسياً او أيديولوجياً!
كما أن خطورة التحاق نقابة الفنانين، وكذلك اتحاد الكتاب العرب بالسلطة، تأتي من استخدامها لهما للقيام بأدوار رقابية على النتاجات الفنية والمؤلفات الأدبية والفكرية! غير أن السؤال الذي يُلح حالياً يتعلق بنزعة البعض في هاتين المؤسستين للالتحاق بالسلطة الجديدة في سوريا، وتطوعهم لتقديم أنفسهم كمطية لها!
بينما يفترض بالأعضاء استغلال لحظة الحرية هذه، لإعلان العودة إلى الغايات الرئيسة التي تقوم عليها مؤسساتهم، أي الدفاع عن حرية الفنانين والكتاب، والنيابة عنهم كأفراد في مواجهة آليات الاستغلال.
حتى اللحظة، لم تصدر عن نقابة الفنانين خطوات توحي بأن مكتبها التنفيذي يتجه نحو خطوات جذرية تصلح من حالها، بل إنه اكتفى بإعادة الأعضاء الذين تم فصلهم خلال سنوات الثورة لأسباب سياسية.
وعلى جانب آخر، يحاول اتحاد الكتاب إزالة وصمة العار التي لحقت به حين تحول إلى منبر للمحتلين الإيرانيين، فكان أسرع "الجهات المكوعة"، (انظر في المدن مقالة : اتحاد كتّاب الأسد ينال جائزة أسرع بيان استدارة!) ويبدو أن رئاسة الاتحاد حائرة لا تعرف ما الذي عليها أن تفعله، طالما أنها لا ترى نفسها خارج علاقة التبعية مع السلطة الحاكمة.
معالجة وضع النقابات السورية خطوة يجب أن تبدأ من داخلها، لا أن تُملى عليها من الأعلى، وهنا لا بد من الانتباه إلى سهولة الانقياد، وإعادة أخطاء الماضي، إن لم يبادر النقابيون إلى الثورة على أوضاعهم المكرسة.
هوامش
1- انظر بحث "المجتمع المدني السوري في مواجهة النظام" تاريخ من المواجهة، علي سفر، مجلة قلمون، العدد 24، تموز/ يوليو 2023، ص112
2- نفسه، ص 113.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها