قد تبدو باريس كما هي، ومن دون متغيّرات كبيرة، لمن يعيش فيها، ولا ينقطع عنها. المراقبة وشدّة الملاحظة لا يستويان سوى لدى أفراد معينين يتملّكهم فضول بعضه علمي، وبعضه الآخر هو ضرب من الحشرية. الغياب عن المدينة ولو لفترة ليست طويلة، ومن ثم العودة إليها، سيمكّن الفرد من ملاحظه ما يفوت على المقيمين الدائمين فيها، المنشغلين بمتطلبات العيش وتفاصيله. أو، ربما، لأن التطوّر الذي يصيب مجالات شتى يُعتبر في الغرب الأوروبي من البديهيات، وكل مشروع يهدف إلى تحسين المشهد المديني في مدينة النور، يبقى مسألة اعتيادية لدى سكانها. هذا، في حين أي خطوة بسيطة تهدف إلى تحسين مرفق من المرافق الحيوية، أو سواها، قد تُعتبر في بلدنا إنجازاً هائلاً، يشبه بناء إهرامات الجيزة، أو تشييد معابد بعلبك الرومانية.
في إعادة التأهيل والتجديد
مبنى الأوبرا الشهير، في الساحة المسمّاة بإسم القاعة التاريخية، تمت تغطية واجهته بلوحة جدارية تستلهم تقنيات الخداع البصري، خلال فترة التجديد التي بدأت منذ فترة، ومركز جورج بومبيدو ذو الوجه الثقافي والفني أفرغ من محتوياته، ما عدا الطابق العلوي الأخير منه، حيث يُقام معرض ذو أهمية فنية، قد تسنح لنا الفرصة للحديث عنه لاحقاً. المبنيان، إضافة إلى أماكن معروفة أخرى، تخضع لعملية الترميم والتجديد المذكورة، علماً أن حالتها السابقة "ما كانت بتشكي من شي"، كما نعتقد. فازت شركة هندسية يابانية في المسابقة التي أجريت من أجل اختيار المشروع الأنسب لتجديد مركز بومبيدو. المشروع سيستغرق إنجازه سنوات خمس، ولن نرى المكان في حلّته الجديدة سوى في العام 2030. أجريت عملية تنظيف لنهر السين الذي يخترق المدينة بحيث أصبح صالحاً للسباحة، وستتحول بعض زواياه إلى شواطىء نهرية، حيث سيعرّض الباريسيين، والباريسيات خصوصاً، أجسادهم لأشعة الشمس، وهي الهواية المحببة لشعب يعتبر أشعة الشمس، التي تشوينا في بلادنا، هدية من السماء. هذه المدينة ترفض الجمود وتحبّذ الحركة بجميع أنواعها، في شبه انعكاس لطبيعة الحياة نفسها، التي لا تقف في مكانها إلاّ حين يطاولها الفناء.

لا مكان للفوضى في باريس. ينظر سكانها شذراً لمن لا يتّبع القواعد والقوانين، أو الأعراف التي كرّسها الزمن، وألوان التربية شبه الصارمة واللينة في آن واحد. يستمع الأطفال إلى تعليمات الأهل وطلباتهم، ولو لم تكن تلبية تلك الطلبات سريعة ومباشرة. طلبت سيدة بلطف من ابنها ذي السنوات الثلاث، وربما الأربع، صاحب الشعر الأشقر والوجه الملائكي، أن لا يدوس بحذائه على المقعد في مترو الأنفاق. لم يستمع إليها في المرة الأولى، فأتبعتها بثانية ثم ثالثة، بالنبرة الهادئة نفسها، إلى أن استجاب الطفل للطلب. لو عاد الأمر لجارتنا، صاحبة الصوت الحاد كنصل، التي أنجبت خمسة أطفال حتى الآن، لسُمع توبيخها لابنها وصراخها الشديد من مسافة كيلومترات، هذا في حال لم يقترن توبيخ الولد بالضرب.

كما في أوروبا في شكل عام، يحتل الهمّ البيئي مكاناً بارزاً لدى الحكومة الفرنسية وسكان البلد. موجة الحر التي ضربت فرنسا، والبلدان المجاورة أيضاً، منذ أيام، غير اعتيادية. لم نرَ موجة مماثلة في بلادنا سوى في أقسى أيام الصيف. المناخ يتغيّر في العالم بأكمله، وثمة خربطة في مزاجية الطقس تنذر بسنوات قادمة لن يرحمنا صيفها أو شتائها. يتجنّب الكثيرون اللجوء إلى سياراتهم من أجل التنقل، نظراًً لزحمة السير المزعجة، ومن أجل تخفيف وطأة التلوث. أفردت بلدية العاصمة، كما مدن أخرى، مكاناً على الشوارع الرئيسية مخصص للدراجات الهوائية دون سواها من دراجات آلية. صار اقتناء دراجة في المدينة والتنقل بواسطتها أمراً اعتياديا. ابن شقيتي وصديقته لا يستعملا وسائل النقل الإعتيادية، بل يعتمدا على دراجتيهما الهوائيتين للذهاب حتى إلى أبعد الأمكنة. ما زالا شابين ويمتلكا القدرة الجسدية، التي صارت تخذلنا نحن، وتبعث فينا غيرة من حيوية الشباب وطاقتهم، معقودة على نوستالجيا لذاك الزمن الذي كنا خلاله لا نعرف معنى التعب والوهن.

حول عالم المتشرّدين
لا تخلو المدينة من تلك الفئة التي لطالما أثارت انتباهنا، والتي لطالما شعرنا بتعاطف مع أفرادها، ومع أمثالهم على هذه البسيطة. أردت غالباً الإستماع إلى قصص المتشرّدين ومجريات حياتهم التي أدّت بهم إلى الطلاق مع المدنية وأساليبها. جماعة "الكلوشار" clochard (متشرّد) ليسوا جميعاً من الصنف والدرجة نفسهما. يصبح الإنسان كلوشاراً بعد أن تضيق أمامه دروب الحياة العادية، قبل أن تُقفل في وجهه نهائياً. يحلّ الكسل لدى هؤلاء مكان السعي إلى تحصيل لقمة العيش بالطرق الطبيعية، وتحلّ معه لامبالاة قلّ نظيرها تجاه ما يدورحولهم. غالباَ ما يحدث هذا الأمر تدريجياً. تبدأ "الرحلة" بما يسمى SDF وهو مختصر لعبارة sans domicile fixe التي تشير إلى ذلك الفرد الذي لا يملك منزلاً ثابتاً يأويه، ولا يمتلك القدرة على دفع إيجار غرفة صغيرة، فينتقل من زاوية إلى أخرى كي يجد مكاناً يخلد فيه إلى سكينة قلقة على أرصفة المدينة، وفي بعض زواياها البعيدة من أقدام المشاة.
شاهدت قرب مترو ستراسبورغ سان ديني، في قلب العاصمة الباريسية، ما يشبه خيمة ترتكز على أخشاب مهترئة، وحاجيات أخرى مما يُرمى من أثاثات المنازل. يشير المشهد إلى مبيت دائم لمشرّد كان يقف قرب "بيته"، وينظر إلى المارة بعينين زائغتين، ومن دون اهتمام بما يجري حوله. هذا الإنسان يعيش في عالم مختلف تماماً عن عالمنا.
الدخول في هذا العالم له شروطه: طعام قليل، وضراوة في التدخين، يتلازمان مع إقبال على احتساء الكحول الرخيصة السريعة المفعول، والضارة لناحية الوضع الصحي الذي لا يوليه الكلوشار أي اهتمام، لدرجة أنك تعجب كيف يبقى بعض هؤلاء على قيد الحياة حتى الشيخوخة. لكن المثير للإهتمام هو قدرة بعض الكلوشار على ابتكار طرق من أجل استعطاف المارة طمعاً بقطعة نقد معدنية. الكلوشار الذي شاهدناه قرب مترو سان ميشال كان يجلس على طرف الرصيف مستنداً إلى جدار المبنى، ويمتلك كلباً من فئة "برجيه ألمان". الكلب الشديد اللطافة، على عكس أبناء جنسه العروفين بالشراسة، الذي ربما خضع لتدريب معيّن، كان يستلقي أمام صاحبه على ظهره بحسب حركات بهلوانية تبعث على الإبتسام، وتدفع المارة إلى إلقاء يورو، وربما أكثر، في القبعة التي وضعها المتشرّد أمامه، وهو ما فعلته شخصياً بكل سرور.
