newsأسرار المدن

"المواسية" لنثانيل وِست: أهم مهزلة تراجيدية في القرن العشرين

المدن - ثقافةالجمعة 2025/07/04
حجم الخط
مشاركة عبر

صدرت عن "محترف أوكسجين للنشر"، رواية جديدة بعنوان: "المواسية" للكاتب الأميركي نثانيل وِست، نقلها إلى العربية المترجم الأردني عماد العتيلي. وهذه هي المرة الأولى التي ينقل فيها عمل لـوِست إلى العربية، هو الذي يعتبر علامة فارقة في تاريخ الرواية الأميركية، وتحديدًا هذا العمل، الذي ما زال يعدّ لتاريخه من أهم 100 رواية في تاريخ الأدب الأميركي.


"إنها رواية لاذعة، مدججة بالأفكار والتأملات"، كما يرد في كلمة الغلاف: "سردها متدفق ومحفّز، يأخذك من العبارة الأولى، ولا يدعك تلتقط أنفاسك إلا وقد فرغت من قراءتها؛ كما لو أن مؤلفها نثانيل وِست كان متيقنًاً من أنه يقدّم رواية خالدة، على النقيض من حياته الوجيزة، ولها أن تُلحق الهزيمة بالزمن الذي لم يهبه سوى 37 سنة عاشها في هذه الأرض. وقع الرواية بالغ الأثر، كما رواية فيتزجرالد "غاتسبي العظيم"، و"الصخب والعنف" لفوكنر، وبطلها يتخذ من عموده الصحفي معبرًا إلى حيوات لا متناهية، وهو يتلقى رسائل اليأس السرّية لجوقة من الضائعين والمشوّهين والمنسيين، يواسيهم فتتسرب حياتهم إلى حياته، ويخوض غمار عالمٍ متداع يوصله إلى ما يجعل من النكتة مأساة".


كما أن الناقد البريطاني هارولد بلوم في كتابه الشهير "كيف نقرأ ولماذا؟"، وصفها بأنَّها إحدى أهمّ روايات القرن العشرين (طبعتها الأولى كانت في العام 1933) وتوصل إلى اعتبارها حسب تعبيره "رواية ليست ساخرةً فحسب، بل هي مهزلةٌ تراجيديَّة". ربما يكون هذا الوصف الأمثل لها! أو أنها "روايةٌ غنائيَّة" حسبما وصفَها كاتبُها، الذي ما أنجزها وهو في الثلاثين من عُمره، حتى فارق الحياة بعدها بسبع سنوات في حادث سير مُفجِع. 

 


ثمة الكثير مما أحاط بوِست وأدبه، وتحديدًا بعد وفاته العام 1940 (مواليد 1903)، بما في ذلك ما عدّه الشاعر وِستن هيو أودن "داء وِست"، بحيث أصبح مصطلحًا يعبّر عن المقاربة الأدبية لحالة الفقر الروحي والاقتصادي والعجز عن تحقيق الأمنيات، وأمسى متصلًا بكل الأدب الذي يدور في هذا الفلك، ومقاربة الواقع بأدوات غير ناجعة، لكون هذه الأدوات لا تنتمي إلى الواقع، بل إلى الوهم والحلم والماورائيات، وهنا تتجسد السخرية في رواية "المواسية"، والسخط، ما يجعلها تراجيدية في سخريتها.


بطل الرواية رجل، لكنه يوقّع عموده الصحافي ومراسلاته مع القراء باسم "المواسية"، ولمنامته أن تكون على هذا النحو: "سرقه النوم فرأى حلمًا وجدَ نفسه فيه واقفًا على خشبة مسرحٍ مكتظٍّ بجمهورٍ عريض. كان الرجل ساحرًا يصنع حيلًا بمقابضِ الأبواب. فكانت المقابضُ تنزف دماً بأمره، وتزهر وتتكلم. وبعدما انتهى عرضه المسرحي، حاول حملَ الجمهور على الصلاة. غير أنه اجتهد فلم يجد سوى الصلاة التي لقنهُ إياها شرايك. لذا، لم يجد بدًا من تلاوتها بصوتٍ آلي بغيض: (إلهُنا، نحنُ لسنا من أولئك الذين يغتسلون بالنبيذ والماء والبول والخلّ والنار والزيت والحليب والبراندي وحامض البوريك. إلهنا، بل نحنُ من أولئك الذين يغتسلون فقط بدمِ الحمًل!)".


وعدا "المواسية" فإن وِست ألّف ثلاث روايات هي على التوالي: "الحياة الحالمة لبالسو سنيل" (1931)، و"مليون بارد" (1934)، و"يوم الجراد" (1939)، ومسرحيتين هما "الكل متعادل" (1934)، تشارك كتابتها مع س. ج. بيرلمان، و"صيد موفق" (1938) بالاشتراك مع جوزيف شرانك، كما شارك في كتابة العديد من سيناريوهات الأفلام، منها "تَذْكِرَة إلى الفردوس" (1936) و"رجال ضد السماء" (1940).

 

غلاف الرواية

من الرواية:

المواسية والحَمل
 

استقلَّ المواسية سيارةَ أجرةٍ وعادَ إلى منزله. كان يعيشُ وحيداً في حجرةٍ ملأى بالظلال، وفيها سريرٌ وطاولةٌ وكرسيان. وكانت جدرانها عاريةً سوى من منحوتةٍ عاجيةٍ للمسيحِ مثبتة قبالةَ السرير. كان المواسية قد انتزعَ منحوتةَ المسيحِ من صليبها وثبتها في الجدارِ وحدها بمسامير. غيرَ أنها لم تحدث في نفسهِ الأثرَ الذي كان يشتهي. وبدلاً من أن تَتلف المنحوتةُ، ظلت ثابتةً وضاجةً بالحياة.

خلعَ الرجل ثيابه بسرعة، وأشعلَ سيجارةً، واصطحبَ نسخةً من روايةِ "الإخوة كارمازوف" معه إلى السرير. كان قد وصلَ في قراءتهِ الروايةَ إلى فصلٍ مخصصٍ لشخصيةِ الأب زوسيما.

"أحبّوا الإنسانَ حتى وهو متمرغٌ في خطاياه، إذ إنَّ ذلك هو الحبُّ الإلهيُّ الخالص وأرقى صورةٍ من صورِ الحبِّ على هذه البسيطة. أحبّوا كلَّ الموجودات، حتى كلَّ حبة رملٍ في كونِ الله الواسع. أحبّوا الحيواناتِ والنباتات، وكلَّ شيء. فإن أحببتم كلَّ شيء، أدركتم السرَّ الإلهيَّ في كلّ شيء. وإنَّ إدراككم السرَّ الإلهيَّ في كلَّ شيءٍ لن يلبثَ أن يتسعَ يوماً بعدَ يومٍ حتى يحتضنَ العالمَ بأسرهِ وينقلبَ حباً غامراً غيرَ مشروط".

كانت تلك وصيةً ممتازة. وإن اتبعها المواسية، فسيحققُ نجاحاً باهراً. كما سيحققُ عمودهُ الصحافيُّ انتشاراً واسعاً، وسيتعلمُ الناسُ جميعاً معنى الحبّ. وستأتي مملكة السماء، وسيجلسُ هو عن يمينِ الحمَل.

بيدَ أن المواسية، على الرغم من عدمِ إيصادِ شرايك البابَ تماماً أمام جوابِ المسيح، أدركَ أنَّ خداعَهُ لنفسهِ بنجاعةِ ذلك الجواب لم يعد مقبولاً. لما كان المواسية لا يزالُ صبياًً في كنيسةِ والدهِ، وجدَ أنَّ شيئاً في نفسهِ يهتزُّ كلما هتفَ باسمِ المسيح. شيء ما خفي وقوي. ولقد ظلَّ الصبيُّ يهتفُ باسمِ المسيحِ لهواً، غيرَ أنه لم يسمح لنفسهِ مرةً بنفخِ الروحِ في الاسم حقيقةً.

باتَ يعلمُ الآن ما هو ذلك الشيء الذي ما انفكَّ اسمُ المسيحِ يحركهُ فيه. إنه الهستيريا. وإنَّ الهستيريا أفعى حراشفها مرائي صغيرة يظهرُ فيها الموتُ مقنّعاً بالحياة. وكم هو ميتٌ ذلك العالم… عالمُ مقابضِ الأبواب. فكّرَ المواسية في ما إذا كان نفخُ الروحُ في عالمِ الموتِ ذاك يستحقُّ الثمنَ الباهظَ الذي دفعه، وهو الهستيريا.

في نظرهِ، كان المسيحُ أكثرَ المحمّساتِ طبيعية. وبعد قليلٍ، ركزَ نظره على صورةِ المسيحِ المثبتةِ على الجدار، وأخذ ينشدُ قائلاً: "المسيح، المسيح، يسوع المسيح، المسيح، المسيح، يسوع المسيح"، غيرَ أنه في اللحظةِ التي بدأت فيها الأفعى بالزحفِ في عقلهِ، فزعَ وأغمضَ عينيه.

سرقهُ النومُ، فرأى حلماً وجدَ نفسهُ فيه واقفاً على خشبةِ مسرحٍ مكتظٍّ بجمهورٍ عريض. كان هو ساحراً يصنعُ حيلاً بمقابضِ الأبواب. فكانت المقابضُ تنزفُ دماً بأمره، وتزهرُ وتتكلم. وبعدما انتهى عرضهُ المسرحي، حاول حملَ الجمهورِ على الصلاة. غيرَ أنه اجتهدَ فلم يجد سوى الصلاة التي لقنهُ إياها شرايك. لذا، لم يجد بُداً من تلاوتها بصوتٍ آليٍّ بغيض:

“إلهنا، نحنُ لسنا من أولئك الذين يغتسلون بالنبيذ والماء والبول والخلّ والنار والزيت والحليب والبراندي وحامض البوريك. إلهنا، بل نحنُ من أولئك الذين يغتسلون فقط بدمِ الحمل![1]”

وفجأةً، تبدّلَ مكانُ الحلم، فوجدَ المواسية نفسهُ في مهجعِ جامعته. ومعه ستيف غارفي، وجود هيوم. وكانوا يتجادلون حولَ وجودِ الله منذ منتصفِ الليلةِ حتى الفجر، والآن قرروا –وقد نفد منهم الويسكي– أن يذهبوا إلى البقالةِ كي يبتاعوا شرابَ التفاح.

ساروا في شوارعِ المدينةِ الغافية، حتى انتهوا إلى السهول وراءها. كان الفصلُ ربيعاً. فأيقظت فيهم الشمسُ ورائحةُ الخضراواتِ غفوةَ السّكرِ ثانيةً، فصاروا يترنحون في سيرهم بين العرباتِ المحملة. خالهم المزارعون يمرحون. خالوهم مجرد فتيان جامعيين يلهون.

وأخيراً، وصلوا إلى الخمَّار وابتاعوا منه إبريقَ شرابِ تفاح، ثمَّ طافوا في منطقةِ بيع الماشية. توقفوا قليلاً كي يعبثوا مع بعض الحملان. واقترحَ عليهما جود أن يبتاعوا حملاً ويشووهُ على نارٍ في الغابة، فوافقه المواسية بشرطِ أن ينحروه قرباناً لله قبلَ شوائه.

أرسلا ستيف إلى السكاكينيّ كي يحضرَ سكينَ جزار، بينما بقيا هما ليساوما بائعَ الماشية في ثمنِ الحمل.  وبعدَ جدالٍ طويل، أظهرَ فيه جود مهارته، اختارا الحملَ الأصغر، وكان الحملُ يبدو لشدة صغرهِ كأنه رأسٌ كله.

حملوا الحملَ متباهين به مروراً بالسوق. وكان المواسية يتقدمهم حاملاً بيده السكين، يليهِ ستيف حاملاً إبريق الشراب، وبعدهُ جود حاملاً الحمل. وفي أثناءِ مسيرهم صدحوا بنسخةٍ فاحشةٍ من ترنيمة “كان لدى مريم حملٌ صغير!”.

كان ثمَّت مرجٌ منسبطٍ بين السوقِ والدكة التي كانوا ينوون تقديم القربان عليها. وفي أثناءِ مرورهم خلاله، قطفوا شيئاً من زهور الأقحوان والحوذان. ولما وصلوا في صعودهم التلةَ إلى منتصفها، وجدوا صخرةً فألبسوها ثوبَ الزهور، ووضعوا الحملَ فوقها. انتُخبَ المواسية قسيساً، بينما أدى صاحباه ستيف وجود دورَ المساعدين. ولما أمسكا بالحملَ وثبّتاه إلى الصخرةِ، ربضَ المواسية عليه وصارَ يشدو: “المسيح، المسيح، يسوع المسيح، المسيح، المسيح، يسوع المسيح!”.

ولما أخذتهم النشوة، نزلَ المواسية على نحرِ الحملِ بالسكينِ بقوة. غيرَ أنَّ ضربته لم تكن دقيقةً، فلم تقتلِ الحملَ بل جرحته. فرفع السكينَ ثانيةً، ولكنَّ مقاومةَ الحملِ ورفساتهِ الموجعةِ جعلت المواسية يخطئ مرةً أخرى، فانكسرت السكينُ لدى ارتطامها بقوةٍ بصخرةِ المذبح. ثبَّت ستيف وجود، رأسَ الحملِ المسكين كي يتمَّ صاحبهما نحره، بيدَ أنَّ السكينَ المكسورة لم تعد ملائمة للذبح ولا قادرة على جزّ صوفِ الحمل.

كانت أيديهم مغطاةً بدمٍ لزج، وبعد قليلٍ فرَّ الحمل، وركضَ مترنحاً ليحتمي بإحدى الأجمات.

سكبت الشمسُ الساطعة على الصخرةِ نورها، فصارَ المشهدُ موحياً بقربِ ارتكابِ مجزرة. فرَّ الأصحابُ وهبطوا التلة حتى وصلوا إلى المرج، حيث استلقوا منهكين في حضنِ عشبهِ الطويل.

وبعد قليلٍ، رجاهما المواسية أن يعودوا جميعاً ويخلصوا الحمل المسكينَ من شقائه. بيدَ أنهما رفضا، فعادَ المواسية وحده. عثرَ على الحملِ مختبئاً في ظلّ أجمة، فسحقَ رأسه بحجرٍ وتركَ جثته نهباً للذبابِ الذي تحلقَ حول زهورِ المذبحِ المضرجة بالدم.

 

 

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

  • image
  • image
  • image
  • image
  • image
subscribe

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث