newsأسرار المدن

الإيراني العادي وانتصارات الخامنئي

فوزي ذبيانالجمعة 2025/07/04
حجم الخط
مشاركة عبر

 

بمجرّد وصولي إلى طهران آتياً من مدينة كرج طالعتني صورة ضخمة جداً فوق أحد الجدران لرجال بالزي العسكري ولدى تمعني في الصورة للحظات بادرني سائق التاكسي الأربعيني فجأة بعبارات إنكليزية تداخلها بعض الكلمات الفارسية وقد ارتسمتْ فوق وجهه ملامح الملل والتعصيب وصولًا ربما إلى الغثيان ثم عمد إلى إنزال زجاج السيارة وأتى بحركة من بين شفتيه لن آتي على ذكر تفاصيلها رأفة بأولئك الذين يرون في الحرس الثوري الإيراني جيش الخلاص، جيش خلاصهم بالتمام والكمال.


ما أن اندلعتْ الحرب الإيرانية الإسرائيلية حتى استبدّتْ بذاكرتي جملة من المشاهدات والأحاديث والجلسات التي كنت قد عايشتها أثناء زيارتي لإيران في العام 2019. وكانت هذه الأمور تجتاح ذاكرتي أكثر وأكثر عندما أسمع أخبار القصف الإسرائيلي الذي يستهدف بشكل خاص كرج وأصفهان وشيراز وهي المدن التي قضيت بها الجزء الأكبر من وقتي في إيران وثمة سؤال بهذا السياق ما انفكّ يلحّ عليّ بقوة: ما موقف الناس العاديين بعامة إزاء جرّهم إلى الحرب من قبل نظام يقوم على محض الحديد والنار؟ أسأل هذا السؤال وفي البال – فضلًا عن سائق التاكسي الذي أقلّني من كرج إلى طهران – ذلك الرجل الآخر والذي يملك محلًا لبيع الألبسة في بازار أصفهان والذي أثناء كلامه عن نظام الملالي كان يعمد إلى حصر رقبته بكفّيه بإشارة منه إلى ما يعانيه الشعب الإيراني من ضيق وخنق بسبب هذا النظام.


من النافل أن ثمة من أهل الممانعة وسنافيرها من قد يرى في هذا الكلام كذبًا أو مبالغة وبأحسن الأحوال قد يرى في سلوك كل من هذين الرجلين حالات فردية لا يعتدّ بها على الإطلاق إزاء "التفاف" الشعب الإيراني حول قيادته ومرشده الأعلى بشكل خاص إلا أني وبكل الأحوال وفيما يتعلق بهؤلاء الناس تحديدًا أجد نفسي بمنأى عن الوقوف عند آرائهم وفي البال مشاهد الثورة الخضراء التي اندلعت في إيران في العام 2009 وصولًا لمشهد مهسا أميني في العام 2022 وما بين كل من هذين الحدثين من قتل وفتك وسجون وإعدامات. إن الوقوف عند الذين يستظلون عباءة المرشد الأعلى حيال القضاء على إسرائيل بصرف النظر عن الوقت (دقائق، ساعات أو أيام)، إن هذا الوقوف يستبطن جملة من العبث ويستبطن أيضًا مناصرة نمط غريب من الغباء وليس على المرء في هذا الصدد سوق نفسه لأن يكون محل مناصرة لغباء الآخرين عبر الوقوف عند تعنتّاتهم أو مناقشة هذه التعنتّات... وتستحضرني في هذا السياق تلك الضحكة الصاخبة التي أطلقتها صديقة جامعية لدى ترجمتي لها إلى الإنكليزية عبارة "أدام الله ظله الشريف" أثناء تناولنا الشاي مع مجموعة من الأصدقاء في أحد مقاهي شيراز.


في مذكراتها التي عنونتها بـ"أشياء كنت ساكتة عنها" (منشورات الجمل 2014) تتكلم الكاتبة الإيرانية آذر نفيسي عن "الإضطراب المؤقت" والذي يتّسم بالديمومة بعد تمكّن الخمينية من تفاصيل الحياة اليومية للإيرانيين. ثمة إجماع بين تلك المجموعة الأكاديمية التي جالستها في ذلك المقهى الجميل في شيراز على أن "المؤقت الدائم" هو شأنهم في تلك البلاد...أيضًا وأيضًا أسأل نفسي ما هو موقف هؤلاء إزاء قصف مدينتهم الرائعة من قبل الطيران الإسرائيلي وعدم قدرة الحرس الثوري على التصدّي لهذا القصف!!


بشكل عام، يفتقر ذهني إلى تعريف واضح وجلي لكلمة "إنتصار" ومع هذا أنا محل رغبة جامحة تتناهشني لمقابلة هؤلاء الإيرانيين العاديين والتوجه إليهم بالسؤال عن رأيهم حيال إعلان الخامنئي النصر على أميركا وإسرائيل بعد انتهاء حرب الأثني عشر يومًا تلك. تراني أشرب كوبًا من "توخمين شَرْبَتي" (العصير الأطيب في إيران) في أحد المقاهي وأنصت إلى تعليقات هؤلاء وما يداخل هذه التعليقات من نكات وسخرية مبطنة أو جلية حيال إعلان المرشد الأعلى النصر لأستقرّ بمسامعي عند ذلك الشاب الثلاثيني الذي شاركني المقعد في الحافلة التي أقلتني في طريق العودة من شيراز إلى أصفهان والذي يحلم بمغادرة بلاده الرائعة الجمال والاستقرار في مدينة نيويورك كما قال!! 


إنها إيران الحياة العادية واليوميات التي تأبى الانخراط في تصدير "الثورة" وامتلاك النووي وسَوْق الناس إلى العوز والقلة والفقر والشح بغية مدّ أذرع "الثورة" بالمال والعتاد في هذا البلد أو ذاك. إنها إيران التي لا يعنيها بالمرة ألاستيلاء على أربع عواصم عربية ولا ترى في نظام الأسد – آنذاك - حليفاً بل ترى فيه عالة على الإيرانيين العاديين في عيشهم شأنه في ذلك شأن الحوثيين في اليمن والحشد الشعبي في العراق وحزب الله في لبنان. إنها إيران ناس المقاهي والساحات العامة وتلك الجلسة الرائعة على شرفة "عمارت عالي قابو" التي تشرف على الميدان الأضخم في أصفهان، ميدان الخميني حيث الأسف الذي أطلقه ذلك الستيني الوقور بسبب استبدال الإسم الأصلي لهذا الميدان باسم الخميني كما قال ببحة صوت راكمتها سنواته الستين.


لست أدري بماذا أمدّني حافظ الشيرازي في أثناء تجوالي في الحديقة المحاذية لضريحه ثم لمسي لهذا الضريح في المدينة الشديدة الأنس والتي تدعى شيراز...سكينة من نمط آخر، توغّل في عزلة مشتهاة أو ربما استرقاق النظر إلى دواخل لم أكن قد عايشتها من قبل. إلا أن حفلة المشي التي باشرتها بعد أيام في شوارع وساحات طهران وصولًا إلى ما يُعرف بميدان تجاريش وبازار القائم ثم قصر رضا شاه بهلوي وحدائقه الخضراء، أعادتني إلى إيران الناس العاديين، إيران الرغبة في العيش والتخلص من أبد القبضات المرفوعة والانتصارات والموت فداء هذا أو ذاك...إيران الاستمتاع، مجرد الاستمتاع بظلال تلك الشجرات الضخمة والرائعة الجمال في محلة Panz dahe Khordad في قلب مدينة طهران...إيران تلك الجموع التي تسير بتمهّل "بانتظار المشهد القادم" كما يقول الروائي الإيراني كيهان خانجي في رواية "قسم المحكومين".

 

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

  • image
  • image
  • image
  • image
  • image
subscribe

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث