newsأسرار المدن

سَلَمْيَة.. "عيون حزينة في قطار" لكنها تكتب الشعر أبداً

زيد قطريبالخميس 2025/07/03
سلمية
سلمية مدينة الشعراء
حجم الخط
مشاركة عبر

 

لطالما اشتُهرت بمدينة "الفقر والفكر". ولأنها غنيةٌ عن التعريف، يفضّل أهلها، حذف الألف واللام من بدايتها، لتلفظ هكذا: "سَلَمْيَة"، لأنها مشتقة من "سَلِمَ مئة"، كما يقول ياقوت الحموي في معجم "البلدان"، عندما نجا مئة رجل من الدمار الذي أصاب إحدى المدن، فشاء الناجون النزول فيها. في حين يرجّح الدكتور عارف تامر، بأن اسم سَلَمْيَة، مرتبط بمعركة "سالميس" التي انتصر فيها اليونان على الفرس العام 480 قبل الميلاد. وفي روايات أخرى، يعيدها البعض لعبارة "سيل ماء"، التي تحورت مع الزمن وأصبحت سَلَمْيَة، لكثرة المياه والينابيع فيها.


هكذا تبدو سَلَمْيَة، مدينة تعددية، تقبل الاحتمالات. فهي حارس قديم على بوابة البادية والحضر. منها انطلق عبيد الله المهدي، إلى شمال أفريقيا ليؤسس الدولة الفاطمية. وفيها ألّف محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، كتاب "إخوان الصفا وخلان الوفا" ذائع الصيت.


تعددية سلمية، واحتمالاتها الكثيرة تاريخيًا، انسحبت على حاضرها، فهي المدينة الأشهر في انتشار الأحزاب والعمل السياسي. اشتهرت بالوقوف الدائم في صف المعارضة، فوصفها البعض بالعصيّة العاصية، من كثرة ما شربت من ماء نهر العاصي. ومنذ استلام آل الأسد للحكم، حجزت سلمية، العدد الأكبر من زنازين السجون، بأسماء أبنائها، من حزب العمل الشيوعي، وحركة 23 شباط، وبقية الأحزاب اليسارية بانشقاقاتها المختلفة، وقبل ذلك، الحزب القومي، الذي دفع ثمنًا باهظًا عام 1955 عندما اغتيل عدنان المالكي.
تقول جدتي: "لسلمية قرص في كل عرس"، وهي تحدثنا، كيف كانت تقطع النهر مشيًا، باتجاه لبنان، كي تزور والدي في سجن القلعة ببيروت.

 

نزيه عيسى"، صانع الأعواد
 

لكن، ورغم عمرها الطاعن في القدم، فقد شبّهها الماغوط بـ"الطفلة التي تعثرت بطرف أوروبا.. وهي تلهو بأقراطها الفاطمية"، في حين خاطبها محمد مصطفى درويش بالقول: "أَسَلمْيَةُ اغتسلي.. بالليل أو بالخمر.. ثلجية القبلِ. شفتان لي من جمرْ".. ضفتان مختلفتان في الصورة، تشبهان الفرق بين قصيدة النثر والتفعيلة. لهذا ربما سُميت أيضًا بمدينة الشعر، فمنها خرج شعراء أثروا تجرِبة الشعر العربي، منهم: سليمان عواد ومحمد الماغوط وإسماعيل عامود وفايز خضور ومحمد مصطفى درويش وخضر عكاري وعلي الجندي وأحمد خنسا وتوفيق عادلة. وغيرهم كثير، ممن حاولوا شقّ طريقهم الخاص، وابتكار أسلوب مختلف، حتى أولئك الذين كتبوا القصيدة العمودية.

 

تمرّد في الحياة والأدب!
وباعتبارها مدينة احتمالية، تغيب المسلّمات عن سلمية، وتغرق أكثر في الشكّ والتمرد، وتبدو وثيقة الارتباط بتاريخها في مقارعة السلطات، منذ أيام الدولة الأموية والعباسية، وكل الانشقاقات التي ألمّت بالحركات الإسلامية، سواء كانت سياسية أم فكرية، لهذا تكثر الأساطير حول هذه المنطقة وسكانها، وباعتبارها على خط التماس بين البادية والداخل، فقد جمعت التناقضات وأذابتها، ثم صنعت جبلّة خاصة، تحتاج، لاكتشافها، سبراً تاريخيًا وجغرافيًا واجتماعيًا وفكريًا.


يعتز "السلامنة" كثيرًا بالشاعر محمد الماغوط، ويحزّ في نفوسهم، رفض السلطة حين وفاته عام 2006، وضع تمثال نصفي تخليدًا لذكراه، وسط الحديقة التي سُميت باسمه. والطريف في الأمر، أن الحديقة التي قُدمت للشاعر وحملت اسمه، كانت مقبرة، تمت إزالتها، لتغتذي الأشجار والنباتات، من أجساد أناس قدماء ماتوا منذ أمد بعيد! ولو كان الماغوط حيًا، ربما ذكرنا بعبارته الباسلة، عندما شبّه الشعر بـ"الجيفة الخالدة"!

 

موسيقى السلمية
 

لا شك أن شيخ قصيدة النثر، استفاد من كل هذه الخلطة الغرائبية، التي كونته بشكل فطري، فكتب قصيدة النثر بعد أن قطع نهائيًا مع الفراهيدي، مثلما هو الحال عند فايز خضور، صاحب ديوان "آداد"، الذي قال: "كُونتُ لأرفض حتى الرفض"، فكتب قصيدة التفعيلة، خارقًا القواعد وموزعًا التفعيلات ضمن الأسطر والمقاطع بشكل جديد ومختلف. فحتى الكلاسيكيات، لابد أن تدمغ بطابع المدينة الخاص، الذي يمتح من ينابيع كثيرة، أهمها التمرد المعنوي والمادي.


تجارِب فذة وفريدة، أتى عليها الطوفان وعسف النظام، وكان على معظم العاملين في الفنون، أن يهاجروا، حتى تكبر أحلامهم في الخارج.. الفقر يلاحقهم وأنباء الاعتقالات، وانقسام العائلات الواحدة بين عدة اتجاهات سياسية، إضافة للعطش، وامتداد التصحّر، لكن كل ذلك لم يمنع، من ضرورة أن يقتني كلُّ بيتٍ مكتبة، وأن يقرأ اليافعون كتاب رأس المال ومؤلفات أنطون سعادة، ويحفظوا انشقاقات الأحزاب بين "مكتب سياسي ومنظمات القاعدة وبكداش" ويعرفون جيدًا رياض الترك ومراد اليوسف، فالتماهي بين الأدب والسياسة، من مقومات تكوين الشخصية في سلمية، وتلك كانت من فوائد منطقة التماس بين البادية التي أخذوا منها الفصاحة، والحضر، الذي صدّر السياسة إليهم!


حُرمت سلمية، من كل مشاريع التنمية، والمشروع الوحيد الذي أقامه النظام فيها، هو معمل لتجفيف البصل، لكن الموافقة على حل مشكلة الجفاف، ومحاولة مَدّ قناة مائية تروي الأراضي والناس، ظلت حلمًا مستحيلًا، رغم أن شبكة الآغاخان، قدمت مشروعًا لجر قناة من الفرات إلى المنطقة الوسطى، وأبدت استعدادها لتمويله وتنفيذه، لكن النظام يعرف ماذا يعني أن يرتوي الناس ويشبعون، فرفض المشروع!

 

 

سطوة الرواد واختناقات الشعر
الأحزاب في سلمية اليوم، أصبحت جمعيات خيرية، وتحول شباب المدينة إلى تأسيس جمعيات للمجتمع المدني، تُعنى بالشؤون الثقافية والاجتماعية، كما كثرت المنتديات الأدبية، وباتت أعداد الشعراء والشاعرات، أكثر مما تحتمله مدينة لا يزيد عدد سكانها مع الضواحي، عن 200 ألف نسمة.


لم تشهد سلمية، ولادة شعراء الانعطافات والفرادة، بعد انقضاء مرحلة الرواد، بل تراجع الشعر فيها، حتى إن شعراءها الشباب، عندما شاركوا بمهرجان في طرطوس، وكانت القاعة ممتلئة بالحضور الذين جاؤوا ليروا، أين صار الشعر في مدينة الشعر. قام أحد الشعراء الحضور من بين الجَمهور، وقال: "هؤلاء ليسوا شعراء سلمية!. إن نصوصهم هشّة ومليئة بالأخطاء اللغوية. هناك أسماء جيدة، لا أعرف لماذا لم تتم دعوتها؟".


كانت المواجهة كبيرة، بين جيل محبط وضعيف، وتجربة رائدة مثل الماغوط، لا يمكن تجاوزها بالسهولة المتخيلة. لكن ما طفا على السطح، لم يكن ليكشف ماذا يستقر في القاع، فقد انتشرت حالات من "النرفانا" الشعرية، التي تكتب لذاتها، وتنفر من المنابر والجمهور، وتلك شريحة بحاجة للتنقيب الهادىء والموضوعي.

 

الحرب وقوافل الهجرة واللجوء!
مع بداية 2011، وانطلاق الثورة السورية، كانت سلمية من أوائل المدن التي خرجت في التظاهرات. وسبب خروجها إرباكًا للنظام الذي كان يحاول إضفاء الصبغة الطائفية على الحراك الشعبي. فتم قمعها بقسوة، لتبدأ قوافل المهاجرين عبر تركيا بالانطلاق، حيث خسرت المدينة خيرة شبابها. ونشأ هناك نوع من أدب المنفى، الذي لم يتبلور بعد، ولم تظهر فيه تجرِبة نافرة تلفت الانتباه.


وأدى تعثر الشعر، إلى اتجاه الشباب للموسيقى، فنشأت الفرق الشبابية، وأشهرها "تكّات" التي حصدت شهرة عربية واسعة خلال مدة قصيرة. كما حافظت الحركة المسرحية على نشاطها، في الأعوام الأولى للثورة، لكنها انكفأت، بسبب التمويل والظروف الأمنية، التي كانت تتفاقم بسرعة كبيرة.

 

 

تحت الرماد..
تفاجئك في سلمية الكثير من المواهب المغمورة، والرجال المحترفون لمهنٍ جمالية، لا تقل بأهميتها عن العالمية. هكذا ستصعق وأنت تدخل منزل "نزيه عيسى"، صانع الأعواد الشهير والعازف المبدع، الذي طور في الآلات وأصبحت آلاته الموسيقية تباع لأشهر المطربين.


لن تصدق وأنت تعبر الباب القديم نحو الداخل، وأنت تشاهد شظف العيش بأمّ العين، سيبدو نزيه بشوشًا، يحدثك عن إمكانات آلة "الربابة" في العزف.. وفي فِنَاء كبير، ستجد نزيه قد زرع بعض الخضراوات، ووضع فرشة تحت شجرة التوت، ينام عليها في الصيف.. وفي الزاوية، غرفة من "البلوك"، ستكتشف أنها المشغل، الذي يصنع أجود الأعواد.. لا يحب نزيه وسائل الإعلام، ولا يحلم بأن يصبح ثريًا، إنه يعيش بعبثية يقول إنها الدليل الأكبر على مجد الفنون.


في الشعر، هناك تجارب أعقبت مرحلة الرواد، لم تنل حقها في الظهور، وفي مقدمتها الشاعر منذر الشيحاوي (1949 - 2015)، الساخر وصاحب الكوميديا السوداء في الكتابة. وسبب عدم شهرته عربيًا، هي تلك "النرفانا" التي أصابت أهالي المدينة، عند التعامل مع الفن. يقول منذر في رثاء محمد الماغوط:
" البرقُ أم عودُ الثقابْ
ودخانُ تبغٍ أم سحابْ
وخطا تنهدٍ في الشوارع
أم لقالق في عبابْ
وشهيق حبر في يراعك
أم زفيرُ .... دم العذابْ
أم ذا شميم أريجِ ثديِ ..
من سلمية في اللعابْ
لا فرق في لغة الشجى
بين الترَحل ..والإيابْ
فاذهب، إلى جهة الحضور
...وأنت مبتسم الغيابْ".

محمد الماغوط
تفكر مليًا، أيّة "جيفة خالدة" كان يقصدها الماغوط، عندما قال إنه سئم الشعر؟ وتحاول أن تسترجع تجرِبة علي الجندي، "أبي لهب"، تفكر في تجربة الشاعر خالد نديم خديجة السريالية، صاحب نظرية "الثَّقب"، وهو يوزع قصائده، على الركاب المسافرين لدمشق، في باصات "الهوب الهوب"؟ إنها الجبلّة ذاتها، بكامل احتمالاتها أمام أصابع الفنان.


ستعثر على النحات علي فخور، الذي طوّع الرخام بطريقة عجيبة، ضاهى فيها أهم الفنانين بالعالم، وتسأل هل هي المورثات فعلًا؟ فذلك الفنان، لم يُعرف إلا مؤخرًا على المستوى العالمي، ورغم عدم دراسته الأكاديمية، إلا أن خبرته الفطرية، تسللت من مكان ما، يعود إلى تلك العجينة أو الجبلّة، العجيبة، التي لا تعرف أين تأخذك، إن فعلت فعلها. يقول لنا علي:
"منذ صغري كنت مشغوفًا بالحجر، ومحاولة نحته وإعطائه شكلاً آخر.. ولاحقًا كانت قساوة الرخام وحساسيته، هي المادة الأشهى للعمل".


ربما يفسر تاريخ المدينة ما قبل الميلاد، تعدديتها الثقافية وانفتاحها الديني، فالدكتور عارف تامر، يقول إنها كانت عامرة منذ زمن السومريين "2400-3000" ق.م، كانت تابعة للمشرفة "قطنا" القريبة من حمص، أيام الأموريين، ثم خضعت للحثيين والآشوريين، وفي نهاية القرن التاسع قبل الميلاد حكمها الآراميون. وفي العصر البيزنطي أصبحت مركزاً لأرشية مسيحية كبرى تمتد من طرابلس الشام حتى الرصافة، كان يتبع لها 76 كنيسة.
نعود للماغوط، في قصيدته الشهيرة، التي صور فيها مسقط رأسه سلمية، فقال:
في كل حفنة من ترابها
جناح فراشة أو قيد أسير
حرف للمتنبي أو سوط للحجاج
أسنان خليفة؛ أو دمعة يتيم
زهورها لا تتفتح في الرمال
لأن الأشرعة مطوية في براعمها
لسنابلها أطواق من النمل
ولكنها لا تعرف الجوع أبدا
لأن أطفالها بعدد غيومها...

 

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

  • image
  • image
  • image
  • image
  • image
subscribe

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث