حجم الخط
مشاركة عبر
يختار محمّد دايخ في برنامجه الكوميديّ "مرحبا دولة" أن يتكلّم مستخدماً مفردات الناس. لئن تولّد هذه اللغة لدى بعضهم إحساساً يترجّح بين التسطيح والابتذال، محتسبين أنّ هذا كلّه لا يليق ببرنامج تلفزيونيّ، غير أنّها بالتأكيد لغة تكسر نمطيّة التعبير اللغويّ الذي يهيمن على المسلسلات ذات الطابع البورجوازيّ. لا يسعى دايخ إلى روتشة اللهجات، التي غالباً ما تفصح عن انتماء أصحابها المناطقيّ والطائفيّ، بل يحافظ على ما تشتمل عليه من فجاجة تارةً، ومن غرابة وجمال طوراً. لكنّ اللافت أيضاً أنّ هذه اللغة لا تأتيك خاماً، بل هي مشغولة بتأنٍّ ودقّة، يدلّ على ذلك ما تحفل به من توريات وأحابيل كلاميّة ودلالات مزدوجة.
لغة الناس في لبنان سبيل محمّد دايخ إلى تسليط الضوء على مظاهر التنوّع المجتمعيّ والشروخ الطبقيّة وتعارض الأجندات السياسيّة. عنوان البرنامج العريض يحيل، طبعاً، على تحلّل الدولة إبّان العقد الماضي، وما تعرّضت له من استباحات نافرة وخفيّة على يد الساسة الفاسدين والميليشياويّين المتفلّتين وزعماء الأحياء. لكنّ هذا التحلّل لا يظهر للعيان عبر سرديّات كبرى (grand narrative) وشعارات رنّانة، بل عبر نتف من سير ذاتيّة يختلط فيها اللهو بالمأساة، وتعكس تداعيات انهيار منطق الدولة على حيوات الأفراد، سواءً كانوا فريق مخفر الدرك الذي يشكّل مركز الحركة الدراميّة، أو من يدور في فلكهم، أو الحالات "الجرميّة" التي يحاولون التعامل معها.
في ما يتخطّى الإشكاليّات التي تتّصل مباشرةً بتفكّك الدولة، يشكّل البرنامج محاولةً صارخةً لتشريح ما ينطوي عليه المجتمع اللبنانيّ من تناقضات الهويّة المجتمعيّة والجنسيّة والدينيّة: من الرهاب الذي ما زال يفتك بكُثُر حيال المثليّة الجنسيّة، مروراً بالآفات النفسيّة التي تترجّح بين محاولة كبتها والسعي إلى التعامل معها عبر العلاج النفسيّ أو تعاطي الحشيش والكوكايين، وصولاً إلى العلاقة الملتبسة بين الأفراد والمؤسّسات الدينيّة التي ينتسبون إليها نظريّاً.
الحملة التي تشنّها اليوم المؤسّسة الدينيّة المسيحيّة والإسلاميّة على "مرحبا دولة" لا ترتبط بمفهومها المعطوب عن حرّيّة التعبير فحسب، بل أيضاً بادّعائها أنّها مؤتمنة على المقدّس، وأنّ هذه "الأمانة" يجب أن تكون لها تداعيات على تشكيل الفضاء العامّ. في ما يختصّ بحرّيّة الفكر والتعبير، يجدر التذكير بأنّ هذه الحرّيّة ليست مسؤولةً إلّا قدّام ذاتها حين يتعلّق الأمر بالنقد السياسيّ والاجتماعيّ. والدين في بلادنا ليس مستثنًى من هذا النقد، ولا سيّما أنّ السلطة الدينيّة كثيراً ما تجنح إلى عقد تحالفات مشبوهة مع السلطة السياسيّة. أمّا قضيّة حراسة المقدّس، فتستعيد فرضيّةً مغلوطةً أنّ التعامل مع هذا المقدّس لا علاقة له بالانحرافات السيكولوجيّة والمجتمعيّة التي يعاني منها البشر. يجب الإقرار، طبعاً، بالخصوصيّة التي تتمتّع بها دائرة المقدّس في حياتنا. لكنّ هذه الخصوصيّة لا تستتبع إبطال العمليّة النقديّة، لأنّ هذه العمليّة بالذات تسهم في تشذيب العلاقة بالمقدّس وتطهيرها من شوائبها. علاوةً على ذلك، إنّ زعم المؤسّسة الدينيّة أنّ المسؤوليّة عن المقدّس منوطة بها من دون سواها، غالباً ما يكون من باب استجداء الدور في سياقات تنحسر فيها سيطرة الدين على المجتمع. فتلجأ هذه المؤسّسة إلى تحالفها القديم مع أهل السياسة بغية تجديد سلطتها المتهالكة. والحقّ أنّ السلطة، المرتبطة غالباً بالمال وآليات النفوذ، هي كلمة السرّ القادرة على تفسير سلوك المؤسّسة الدينيّة الفاجر حيال «مرحبا دولة». فهذه المؤسّسة، التي تبدو في غالبيّة الأحيان غارقةً في سباتها الفكريّ والمجتمعيّ، تكاد لا تنتفض إلّا حين تشعر بأنّ سلطتها على البشر والفضاء العامّ مهدّدة من باب النقد. حيال هذه الحال، لا مناص من الترداد مع محمّد دايخ: مرحبا مؤسّسة دينيّة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها