حجم الخط
مشاركة عبر
من أخبار الحرب العالمية الثانية، أن جندياً يابانياً يدعى شويتشي يوكوي كان مرابضاً مع مجموعة من الجنود اليابانيين في جزيرة غوام، حيث، وعلى وقع إنزال أميركي، تمّ القضاء على المجموعة كلها، إلا يوكوي الذي انسحب إلى أدغال الجزيرة حيث عُثر عليه بالصدفة بعد 27 عاماً من انتهاء الحرب الكبرى، وكان ما زال محتفظاً بخرق سلاحه وصدئه، ظناً منه أن الحرب لم تنتهِ بعد. ولدى سوقه إلى طوكيو، صرّح يوكوي بأن تواريه داخل الأدغال وتحصنه هناك كل هذا الوقت، يعود إلى شدة ولائه للإمبراطور. وقد أدى موقف يوكوي هذا بالشعب الياباني إلى حيرة، بين من عدّه بطلاً قومياً، ومن اعتبره طرفة مثيرة للشفقة تارة وللسخرية تارة أخرى.
يخال المرء أن تجارب من النوع هذا، يستحيل أن تتكرر. بَيد أن التاريخ لا ينفكّ يؤكد لنا مقولة الرفيق كارل ماركس، أن التاريخ لا يني يكرر بعض أحداثه وإن بشكل كاريكاتوري.
ثمة في لبنان بعد الحرب الطاحنة الأخيرة، مَن تراه مستفحلاً في التماهي مع الجندي الياباني ذاك، شويتشي يوكوي! ربما التشبّث بالسلاح في حالة يوكويي لبنان، لا علاقة له بظن مفاده أن الحرب لم تنته بعد، إنما بظن آخر شديد الضبابية. وأنا في هذا الصدد أقرب إلى ما جاء في كتاب "حكاية الجند" لصموئيل هاينز الذي يرى أن الحرب بالنسبة إلى بعض الجماعات هي صلة الوصل الوحيدة التي تربطهم بالعالم، بعالم العناوين الكبرى تحديداً. إنها الرغبة – بصرف النظر عن النتائج – التي تقوم على تصور مفاده أن المحارب، فقط المحارب، هو الفاعل الأكبر في التاريخ.
في ما يتعلّق بتشبّث يوكويي لبنان بسلاحهم، ربما الأمر يعود إلى الشعور بخيبة من نمط آخر في حال تنازلوا عن هذا السلاح، إنها خيبة فقدان الإيمان بقضية، بقضية ما، بقضيتهم الكبرى. فإذا كان الزي العسكري، في بعض وجوهه، بمثابة زي تنكري له علاقة بمحض الحروب وويلاتها، فإن يوكويي لبنان يصرّون على أن الزي المدني هو الزي التنكري، أما العسكري فهو الأصلي إلى يوم الدين، إلى آخر الزمان.
يشهد التاريخ الكثير جداً من الحالات، حيث التشبّث بخوض الحروب انعكاس لتجربة عيش مشوهة. لكن هذا التاريخ يمدّنا أيضاً بكم هائل من الدروس عن جماعات جهدت بعمق لإعادة النظر في التجارب المشوهة إلا – طالما الحديث عن السلاح والحروب – إذا كانت الحروب باعتبار هذه الجماعة أو تلك نسخات أرضية لوجه الرب، نسخات بشرية لحلول الله بيننا... ولله عندئذ في خلقه شؤون وشجون.
ربما التشبّث بـ"نعمة السلاح" هو محاولة لدى البعض للسيطرة على سردية تاريخية، وقد فشلت، بل تهاوت مسالك هذه السردية كلها، كسردية الإنتصارات الدائمة مثلاً. إن تشبّث الجندي الياباني شويتشي يوكوي بهلاهيل سلاحه، فسّره البعض على ضوء سردية الولاء للإمبراطور، وهي سردية تحفر في التاريخ والوجدان الشعبي الياباني عميقاً. فبالنسبة إلى شويتشي يوكوي، شأن كل يوكويي العالم، كل فعل إدراك ينسلّ، ما خلا ذلك الإدراك الذي يندرج في متاهات وعتمات السرديات الكبرى، بصرف النظر عن العواقب والمصائب والكوارث وإلى آخر معجم هذه المصطلحات، والمترتبة عن محض الركون إلى هذه السرديات المتهالكة.
في كل حال، ربما الركون إلى النمط هذا هو حرب من نوع آخر، لكنها غالباً حرب ما بعد فوات الأوان، وقد تكثفت سُحُب الإنكسار والهزيمة والخيبة. بالنسبة إلى البعض، تكون الحياة أكثر حسية إذا كُتبت على الدوم بحبر الدم فوق صفحات كتاب الحياة.
يَحار المرء حيال المقارنة بين يوكوي تلك الجزيرة اليابانية، ويوكويي لبنان المشحّر. فإذا كانت سياقات الأحداث، وعلى رأسها فقدان الجندي الياباني ذاك كلَّ اتصال مع قيادته، قد ساقته إلى هذا المصير، فإن المرء ليتساءل عما يسوق يوكويي لبنان المشحّر إلى هذا التشبّث بالسلاح على الرغم من طوشة الاتصالات ووسائلها اليوم، وهم جزء لا يتجزأ من هذه الطوشة، وفي البال كل شدائد الحرب الأخيرة، بدءاً بالبيجر، فقتل القيادات، فسقوط بشار الأسد، وصولاً – وبشكل خاص -إلى المفاوضات الأميركية الإيرانية التي هي محلّ متابعة بأدق تفاصيلها من قِبل الكوكب كله... ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ليس من باب الاستطراد، إنما في صلب الموضوع: يخبرنا أهل الاختصاص في أكباش الفداء والأضحيات، أن رمي كبش الفداء خارج أسوار المدينة كي يموت هناك وحيداً، هو طقس يستبطن ضمناً، دفعاً لتعزيز أحوال المدينة من الداخل... والأسوار في سياقنا هذا هي تلك المفاوضات والقرارات التي ستترتب على تلك المفاوضات، ومآل العالم ومنطقتنا ضمناً حيال نتائج تلك المفاوضات. أما كبش الفداء، فلا حاجة للإشارة إليه، وقد ارتضى هذا الدور بما يفوق التصورات والخيال!
فإذا كان المجتمع الياباني قد رفض مقاربة يوكوي ككبش فداء لتعزيز البطولة داخل هذا المجتمع، وقد أدرك حجم هزيمته المدوية في الحرب العالمية الثانية، بل عانَقها، فإن السؤال الذي يضيق به الذهن ذرعاً هو: متى يكفّ مجتمع يوكويي لبنان عن الرضى بكونهم أكباش فداء يصار إلى التضحية بها خارج أسوار المدينة الإيرانية؟!
في الواقع، لا وضوح في الجواب على هذا السؤال، وإن كان ثمة ما يغري بالإستعانة بالسويسري كارل غوستاف يونغ، بغية تلمّس بقية جواب. ففي واحد من كتبه، يطرح يونغ هذا السؤال الهائل: ما هي الصفة التي تميّز البشر عن الرب؟ ليكون الجواب: الحذر.
فلكي ينجو الإنسان، عليه أن يكون حذراً إزاء وعيه بالعجز حيال بعض العقبات، في حين أن الربّ ليس في حاجة إلى هذا الحذر، لسبب وحيد، وهو أنه لا عقبة لا يمكن للرب تذليلها. أما الطامة، الطامة الكبرى، فتكمن في ظنّ البعض من ناس الله وأحزابه، أنهم الله نفسه، حيث عندئذ، ودائماً مع يونغ، لا مكان للحذر، إنما فقط كارثة ومن بعدها كارثة، وبالتالي التشبّث بخيارات تتراوح بين الطرافة والسخرية، شأن خيار شويتشي يوكوي.
يخال المرء أن تجارب من النوع هذا، يستحيل أن تتكرر. بَيد أن التاريخ لا ينفكّ يؤكد لنا مقولة الرفيق كارل ماركس، أن التاريخ لا يني يكرر بعض أحداثه وإن بشكل كاريكاتوري.
ثمة في لبنان بعد الحرب الطاحنة الأخيرة، مَن تراه مستفحلاً في التماهي مع الجندي الياباني ذاك، شويتشي يوكوي! ربما التشبّث بالسلاح في حالة يوكويي لبنان، لا علاقة له بظن مفاده أن الحرب لم تنته بعد، إنما بظن آخر شديد الضبابية. وأنا في هذا الصدد أقرب إلى ما جاء في كتاب "حكاية الجند" لصموئيل هاينز الذي يرى أن الحرب بالنسبة إلى بعض الجماعات هي صلة الوصل الوحيدة التي تربطهم بالعالم، بعالم العناوين الكبرى تحديداً. إنها الرغبة – بصرف النظر عن النتائج – التي تقوم على تصور مفاده أن المحارب، فقط المحارب، هو الفاعل الأكبر في التاريخ.
في ما يتعلّق بتشبّث يوكويي لبنان بسلاحهم، ربما الأمر يعود إلى الشعور بخيبة من نمط آخر في حال تنازلوا عن هذا السلاح، إنها خيبة فقدان الإيمان بقضية، بقضية ما، بقضيتهم الكبرى. فإذا كان الزي العسكري، في بعض وجوهه، بمثابة زي تنكري له علاقة بمحض الحروب وويلاتها، فإن يوكويي لبنان يصرّون على أن الزي المدني هو الزي التنكري، أما العسكري فهو الأصلي إلى يوم الدين، إلى آخر الزمان.
يشهد التاريخ الكثير جداً من الحالات، حيث التشبّث بخوض الحروب انعكاس لتجربة عيش مشوهة. لكن هذا التاريخ يمدّنا أيضاً بكم هائل من الدروس عن جماعات جهدت بعمق لإعادة النظر في التجارب المشوهة إلا – طالما الحديث عن السلاح والحروب – إذا كانت الحروب باعتبار هذه الجماعة أو تلك نسخات أرضية لوجه الرب، نسخات بشرية لحلول الله بيننا... ولله عندئذ في خلقه شؤون وشجون.
ربما التشبّث بـ"نعمة السلاح" هو محاولة لدى البعض للسيطرة على سردية تاريخية، وقد فشلت، بل تهاوت مسالك هذه السردية كلها، كسردية الإنتصارات الدائمة مثلاً. إن تشبّث الجندي الياباني شويتشي يوكوي بهلاهيل سلاحه، فسّره البعض على ضوء سردية الولاء للإمبراطور، وهي سردية تحفر في التاريخ والوجدان الشعبي الياباني عميقاً. فبالنسبة إلى شويتشي يوكوي، شأن كل يوكويي العالم، كل فعل إدراك ينسلّ، ما خلا ذلك الإدراك الذي يندرج في متاهات وعتمات السرديات الكبرى، بصرف النظر عن العواقب والمصائب والكوارث وإلى آخر معجم هذه المصطلحات، والمترتبة عن محض الركون إلى هذه السرديات المتهالكة.
في كل حال، ربما الركون إلى النمط هذا هو حرب من نوع آخر، لكنها غالباً حرب ما بعد فوات الأوان، وقد تكثفت سُحُب الإنكسار والهزيمة والخيبة. بالنسبة إلى البعض، تكون الحياة أكثر حسية إذا كُتبت على الدوم بحبر الدم فوق صفحات كتاب الحياة.
يَحار المرء حيال المقارنة بين يوكوي تلك الجزيرة اليابانية، ويوكويي لبنان المشحّر. فإذا كانت سياقات الأحداث، وعلى رأسها فقدان الجندي الياباني ذاك كلَّ اتصال مع قيادته، قد ساقته إلى هذا المصير، فإن المرء ليتساءل عما يسوق يوكويي لبنان المشحّر إلى هذا التشبّث بالسلاح على الرغم من طوشة الاتصالات ووسائلها اليوم، وهم جزء لا يتجزأ من هذه الطوشة، وفي البال كل شدائد الحرب الأخيرة، بدءاً بالبيجر، فقتل القيادات، فسقوط بشار الأسد، وصولاً – وبشكل خاص -إلى المفاوضات الأميركية الإيرانية التي هي محلّ متابعة بأدق تفاصيلها من قِبل الكوكب كله... ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ليس من باب الاستطراد، إنما في صلب الموضوع: يخبرنا أهل الاختصاص في أكباش الفداء والأضحيات، أن رمي كبش الفداء خارج أسوار المدينة كي يموت هناك وحيداً، هو طقس يستبطن ضمناً، دفعاً لتعزيز أحوال المدينة من الداخل... والأسوار في سياقنا هذا هي تلك المفاوضات والقرارات التي ستترتب على تلك المفاوضات، ومآل العالم ومنطقتنا ضمناً حيال نتائج تلك المفاوضات. أما كبش الفداء، فلا حاجة للإشارة إليه، وقد ارتضى هذا الدور بما يفوق التصورات والخيال!
فإذا كان المجتمع الياباني قد رفض مقاربة يوكوي ككبش فداء لتعزيز البطولة داخل هذا المجتمع، وقد أدرك حجم هزيمته المدوية في الحرب العالمية الثانية، بل عانَقها، فإن السؤال الذي يضيق به الذهن ذرعاً هو: متى يكفّ مجتمع يوكويي لبنان عن الرضى بكونهم أكباش فداء يصار إلى التضحية بها خارج أسوار المدينة الإيرانية؟!
في الواقع، لا وضوح في الجواب على هذا السؤال، وإن كان ثمة ما يغري بالإستعانة بالسويسري كارل غوستاف يونغ، بغية تلمّس بقية جواب. ففي واحد من كتبه، يطرح يونغ هذا السؤال الهائل: ما هي الصفة التي تميّز البشر عن الرب؟ ليكون الجواب: الحذر.
فلكي ينجو الإنسان، عليه أن يكون حذراً إزاء وعيه بالعجز حيال بعض العقبات، في حين أن الربّ ليس في حاجة إلى هذا الحذر، لسبب وحيد، وهو أنه لا عقبة لا يمكن للرب تذليلها. أما الطامة، الطامة الكبرى، فتكمن في ظنّ البعض من ناس الله وأحزابه، أنهم الله نفسه، حيث عندئذ، ودائماً مع يونغ، لا مكان للحذر، إنما فقط كارثة ومن بعدها كارثة، وبالتالي التشبّث بخيارات تتراوح بين الطرافة والسخرية، شأن خيار شويتشي يوكوي.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها