القنب الهندي: حين بادلنا الغزلان بالقرود

محمد حجيريالاثنين 2025/05/12
GettyImages-51394074.jpg
زراعة الحشيشة
حجم الخط
مشاركة عبر
يومًا ما، كتبتُ مقالاً في المنبر الراحل "ملحق النهار" عن القنّب الهندي أو الحشيشة البقاعية أو الماريغوانا(الماريخوانا)، عنوانه "حين بادلنا الغزلان بالقرود"، والعبارة قالها الشاعر العامي طلال حيدر، بالتزامن مع تلف الحشيشة البقاعية والترويج لما سمي "الزراعات البديلة" برعاية أممية وتنفيذ سوري أسدي. كان المقترح يومها البطاطا بدلاً من الحشيشة، وبعض الأفكار الخلبية من الأمم المتحدة، ولم تصل إلى مكان ونتيجة.

وأطيحت "بحبوحة" الحشيشة، ولم يكمل بعضهم تشييد الفيلا، وصارت تجارة الحشيش تقتصر على العصابات المحمية من بعض الجهات الأمنية والسياسية. وتحول تلف الحشيشة وزراعتها نوعًا من سياسة يتحكم فيها النظام السوري وأدواته وملحقاته الأمنية والعشائرية اللبنانية، إذ كانوا يتقاضون ثمن العراضات في تلف الحقول الظاهرة أو البادية للعيان، وفي سجن بعض المتعاطين. وبقيت زراعة الحشيشة وتجارتها وتعاطيها في دائرة "الممنوعات" اللبنانية، مع كثير من المقترحات الشعبوية والتلفزيونية التي تنظّر لتشريع الحشيشة لأغراض طبّية.

وعلى أثر المقال المذكور أعلاه، أبلغني أحد الزملاء آنذاك، بأن "أمن الدولة" يبحث عني بسبب المقال العرمرمي، بزعم أني أسوّق للحشيشة، وكنت كبطل روائي متشرّد ومهزوم أتفادى مواجهة أي رجل سلطة أو حاجز أمني في الطريق، وتولى محامي الجريدة التي أكتب فيها، التواصل مع الأمن ولا أعرف كيف انتهت الأمور بينه وبينهم. كنت في شيء من اللامبالاة، أشبه الحشاشين من دون حشيشة أو تدخين. 


ومع زيارة رئيس الحكومة، نواف سلام إلى البقاع، أشار إلى أنه تم وضع مشروع "إنشاء الهيئة الناظمة للقنب الهندي على السكة وذلك للانتقال إلى اقتصاد مبني على الإنماء ما يعود بالمنافع على أهل المنطقة، وأن الحكومة حريصة على الإنماء المتوازن". لم أسمع التصريح مباشرة، بل قرأت بعضاً منه في فايسبوك، وخمّنت في البداية أن ذلك فيه شيء من الطرافة، أو السماجة الفايسبوكية. وتزامن الأمر مع قراءتي مقالة قديمة للباحث الفذّ الراحل حسن قبيسي، بعنوان "النبتة الطبّيّة الممنوعة: كتاب ومسألة"، وهي قراءة في كتاب لغرينسبون بالاشتراك مع جيمس باكالار.

يستهل المعلم غرينسبون كتابه بإبلاغ قارئيه أنه عندما أخذ يهتم بالماريخوانا العام 1967 كان مقتنعا بأنه "حيال عُقّار مؤذٍ جداً"، وأنه كان يتأسف عندما يرى أن هذا العقار "يجد كل هذه الحظوة عند شبان طائشين، يصمّون آذانهم عن سماع كل نصح رشيد يحذرهم من مخاطره". لكن السنوات الثلاث التي عكف خلالها على قراءة "الكتابات العلمية والطبية والعادية" المتوافرة حول هذا الموضوع، جعلته يغيّر رأيه شيئًا فشيئًا "إلى أن أدركت أخيرًا، شأني شأن كثيرين في هذه البلاد، أن ما كان في رأسي من أحكام حول هذه النبتة لم يكن إلا حشواً للدماغ، وأن أفكاري اليقينية التي حملتها حول مخاطر الماريخوانا لم تستند إلا الى القليل من الأسس العلمية. وعندما أنهيت أبحاثي التي أفضت نتائجها إلى مادة لتأليف كتاب، صرت على اقتناع بأن القنب الهندي أقل ضرراً بما لا يقاس من التبغ والكحول، رغم انهما يستهلكان بصورة مشروعة على أوسع نطاق".

هكذا وجد غرينسبون أن من الضروري "إعادة النظر بالماريخوانا". كما أن متابعته، بحكم المهنة، لهذا الموضوع منذ ذلك الحين أدّت به العام 1993 إلى تأليف كتابه هذا (النبتة الطبية الممنوعة). فالكتاب مبني، بالدرجة الأولى، على شهادات المرضى الذين كان القنب الهندي (الحشيشة، حسب تسميته في بلادنا) سبباً في شفائهم من أمراض عديدة، أو في تحملهم لآلام أمراض لا تزال تستعصي على العلاج. وتتوزع الشهادات المذكورة على أحد عشر مرضاً تبدأ بالسرطان وتنتهي بالاكتئاب والاضطرابات المزاجية الأخرى، وتمرّ باستسقاء العين، والصرع، وتصلّب الألياف العصبية، والشلل النصفي والرباعي، والسيدا، والأوجاع المزمنة، والشقيقة، والهراش، وآلام الطمث والوضع، بالإضافة الى أمراض يدرجها المؤلفان تحت عنوان "استعمالات طبية أخرى": كالربو، والأرق، وانحطاط القوى، والدوار الصباحي المزمن...

والواقع أن المؤلفين يدرجان كتابهما ضمن تراث طبي مديد العمر. فيأتيان في الفصل الأول منه على ذكر الأطباء والمؤلفات الطبية التي اعتمدت القنب الهندي علاجاً، والتي يتبيّن منها أن هذا القنب كان يستعمل في علاج هذه الأمراض وغيرها، عند الغربيين، منذ أوائل القرن الماضي، خصوصاً في الحقبة الممتدة بين 1840 و1900، والتي يصفها المؤلفان بأنها "العصر الذهبي للقنب الهندي عند الغربيين".

من معايشتي اليومية، أعرف أن الكثير من الأشخاص يستعملون الحشيشة لداء السكري، في المقابل أعرف كثيرين يدمنون على الحشيش، وتضفي على حياتهم كسلاً وسأماً، يعمّرون المدن ويصعدون إلى الفضاء في جلساتهم وأفكارهم. لا نريد الإطالة في وصف طقوس الحشيش، خصوصاً في بلد التوتر والحروب والأزمات، البلد الذي تنتعش فيه العيادات النفسية وأدوية الأعصاب.

ما أود قوله إن زراعة الحشيش في سنواتها الأخيرة، أصبحت ربّما "دقة قديمة"، بالنسبة للتجار والعصابات، جماعة الربح السريع والوفير. إذ باتت مكلفة، تحتاج إلى أرض خصبة ووقت ومياه وعمال ومعامل وأسواق، وبإزاء هذا كثر، لجأ كثر منهم إلى حبوب الكبتاغون، ذلك أن صناعتها بحسب المعلومات المتداولة، قائمة على معامل صغيرة، وبعض المواد يجني منها التاجر أرباحاً طائلة، وتُهرّب إلى دول العالم، خصوصاً الخليجية، ويرجح أن تكون الكثير من الحسابات المصرفية الدسمة، نتاج كبتاغون، والله أعلم. ربما علينا أن نسأل ماهر الأسد وفرقته الرابعة.

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث