حجم الخط
مشاركة عبر
وُلدت في رحم امرأة مسيحية ومن صلب رجل مسلم. لا هي ولا هو مارسا أو نطقاً أو مارساً ديانتهما تحت سقف بيتنا. فارتوى وعيي الأول من حنان ورحمة بيت جدي الحاج وجدتي الحاجة في "عائشة بكار"، ومن بيت وكرم ومحبة خالتي روزيت، ورفقة وحيدها الياس وأخواته، ومن صدى صوت الجرس في الضيعة.
كان لي ولأخوتي دفء وألفة من عائلتهما. من الأعمام والعمات، ومن الخالات والأخوال. من بيوت أعمامي وعماتي غرفنا فرح العيدين في رأس بيروت، واكتسبنا مظلة الانتماء الأولى: بحر مفتوح ومغامرات، دور سينما عرضت العالم وجمالياته أمام أعيننا في شارع الحمراء، ومدارس -ولو رسمية- نتشنا منها بعضاً من العلم، ومسكنا حروف اللغات الأجنبية. في بيت عمتي الكبرى، كان الكرم والحماية ورفقة أبناء العمة. كان الأقارب يتبارزون بنا فخراً: من الأشطر في معاني الكلمات الأجنبية، وفي الحساب! وفي بيت عمتي الصغرى، كانت لنا قرابة نوعية راقية. ومن بيوت الأعمام وأولادهم، سمعنا القصص والعبر، وصوت النرد، وخرير مياه الأراكيل، والراديو ونتف من أحاديث السياسة الخجولة.
في ضيعة أمي، كان بيت جدي المعمًر والمُتعب، الجالس أبداً على كرسي خشبي صغير، في ظل أشجار التوت وبيته الصخري المزين بالقناطر الصخرية بناه بيديه. هواء الضيعة وناسها كانا مختلفين عن بيروت. حتى الوقت بدا مختلفاً. الشمس فوق هي سيدة الموقف. والعين تستريح أمام المساحات الواسعة، والبيوت المتباعدة، والهضاب التي تحتضن إحداها كنيسة الرعية. لفتني خالي العسكري الطيب والمحب. خالي الذي رمته تجربته في طرابلس إلى التقاعد المبكر. وخالي الأصغر آخر العنقود، يوم كانت عناقيد العنب في الضيعة جلالاً، كان "شيخ شباب" القرية، يقود سيارته الخاصة، ويشتغل بالقرش الحلال. خالتاي روزيت وناديا كانتا مدرسة حب، وعطاء بسمات صادقة، فنصاب بالتعلق بالضيعة من أول نظرة. المرحومة خالتي ناديا، كانت صلة الوصل بين بيروت والجبل، مظلة حب للعائلة، ومدرسة لنكران الذات.

رأس بيروت أهدتنا جيرة طيبة مع "أهل الحب".
الجيرة المختلطة في شارع "مدام كوري" (الصنوبرة هي التسمية الشعبية)، بين مسلمين ومسيحيين ودروز وأرمن. بيئة درّبتنا وعلّمتنا، بالتجربة، أن الإنسان يحقق إنسانيته ويسموا بأفعاله، بغض النظر عن ديانته. لا أعرف حقاً كيف تمكنت رأس بيروت، وتحديداً البناية التي عشنا فيها، من تحويل وعينا وعقلنا إلى التمييز بين الحق والصواب، بين الجيد والسيئ، وبين الخير والشر... وأنا على مسافة من أهل الجوامع وأهل الكنائس. ففي منطقتنا، بقيت أبواب الكنائس مفتوحة والقذائف تسقط علينا من "بيروت الشرقية". وعدد المصلين في جامع قريطم بقي ضمن حدود المبنى. كان الدين للإيمان وراحة الأنفس وليس ماكينة سياسية تصنع الضغائن.
كانت لنا جيرة وأخوة مع عائلة مسيحية من أصول عراقية، ومع جيران أرمن، تشاركنا معهم الخبز والملح والخوف من القصف العشوائي. وكانت لي صداقة ورفقة مع جيراننا يساريي الهوى من زحلة، وجار أرمني يهوى الرسم، وأبناء جيران بادلناهم بسمة اللقاء و"البونجور"، وكنا نخاف عليهم من نوبات غضب الشارع. جارنا أبو سامي، كان يضطر إلى الوقوف أمام مدخل البناية كي يساير ويتآلف مع بعض "شلمسطية" الحي ليحمي نفسه وعائلته. وجارنا الرسام الذي تطوع نجاراً في بيتنا، قتل لاحقاً، وهو يحاول وصل ما انقطع بين غربية وشرقية. وكم شعرت بالمرارة والخذلان، ومنطقة الأشرفية يقصفها "الجيش السوري" بالراجمات، التي تمترست أحداها في شارعنا. موقف بشع ومؤلم، أن ترى وتسمع أبن بلدك يُعاقب ويُقتل، وأنت مجبور أن تدعي الطرش واللامبالاة.
مدير وصاحب "مدرسة الروضة" في شارعنا، الأستاذ قيصر حداد، كان إنساناً متفوقاً خدم أجيالاً وقدم للبلد ولقضيته عقولاً شابة واعدة. كان قيصر ومدرسته علامة فارقة في المنطقة، كما كانت "مدرسة الطليان"، التي كان يديرها رجال دين مسيحيين أقباط، والتي فتحت أبواب ملاعبها وساحاتها لكل شباب رأس بيروت، للعب واكتساب الثقافة بعيداً عن ساحات القتال والتشبيح.
اخترعت "الحركة الوطنية"، المسيطرة على بيروت الغربية وغيرها، شعار "عزل الكتائب"، أي عزل "المسيحيين". صارت عبارة "الانعزاليين" تتكرّر في نشرات الأخبار وعناوين الصحف. وعلا الحاجز النفسي مع سلسلة الحروب، حتى بتنا لا نرى ولا نعرف بعضنا نحن أهل الوطن الواحد. عشنا كالغرباء على أرض صلة الوصل بينها أنهار تنبع من الجبال وتصب في البحر من دون الاستفادة الفعلية منها، ومعابر تفتح وتغلق على وقع المعارك والصفقات. ومع نهاية الحرب، اعترف العقل المفكر للحركة الوطنية أن شعار عزل المسيحيين كان خطأ استراتيجيا! ذكرني بمسلسل "صح النوم".

عامل آخر أبقى على صلة الوصل بين شطري بيروت، وبين المسلمين والمسيحيين في هذا البلد: شاشة التلفزيون. ذاك المربع الصغير، الناقل لصورة الإنسان الحقيقي بالأسود والأبيض. فعرفنا فيليب عقيقي، وايلي صنيفر، وأنطوان كرباج، آمال عفيش، ألسي فرنيني، جورجيت صايغ، وفيروز وصباح. لم تقو الحرب على تحطيم الصورة الإنسانية "للآخر". هناك، حيث كانت الناس تعاني، ولو بدرجة أقل، من القصف العشوائي، والسيارات المفخخة، والحروب الداخلية. كثر من المسيحيين كانوا قلباً ووعياً معنا. وكثر من المسلمين كانوا قلباً ووعياً معهم. عدا عن الكثير من الخوف عليهم. تلك كانت عبارة نسيها الناس والصحافة: "الأغلبية الصامتة".
ذروة احتكاكي وتعرفي بأهلنا وأخوتنا المسيحيين كانت في الجامعة الأميركية في بيروت. تعرفت عن قرب بالطبيب والممرض والممرضة والموظف المسيحي الذي صمد واستمر يعمل في المؤسسة مغامراً بحياته. كانوا أناسا رائعين، معطائين، صابرين، ولا يميزون بين مسلم ومسيحي، أكان ممرضاً أو مريضاً. صرنا نخاف عليهم من فوضى الزمن والسلاح المتفلت. عشنا معاً تحت خطر القصف، والتهديد بالسلاح، ومواجهة التعديات وحثالة حرب أهلية لا أفق لها. تشكّلت بيننا عشرة طيبة، تخطت الحدود، لتصل إلى خدمات لا يتخيلها كثر في المؤسسة اليوم: تخليص زميل أو طبيب من براثن خاطفيه، التبرع بالدم، خدمات متبادلة داخل وخارج المستشفى، وتناول وجبات الطعام -الطعام نفسه- في الكافيتريا. كنا روحاً واحدة تحت الخطر. كنا الشطار خارج كادر الحرب ووساختها.
بعد تخرجي من الجامعة اللبنانية، عملت في مجلة "المونداي مورنينغ" لنقيب المحررين الراحل ملحم كرم. لاحقاً، قرر نقل وتوحيد المكاتب في الأشرفية بعد انتهاء الحرب. هناك كان الاكتشاف الكبير، الانفجار الكبير، والتعارف عبر الصدمة. كان الزملاء والزميلات من المسيحيين الذين لم تطأ أقدامهم بيروت الغربية ولم يحتكوا مع مسلم لبناني من قبل. يا له من لقاء وتعارف قاس وجميل في الوقت نفسه! رغم صعوبة المرحلة وتحدياتها، تعايشنا مع بعضنا في المجلة تحت مظلة النقيب الذي أراد هذا الاجتماع. تعلمت الكثير في "المونداي مونينغ" في الأشرفية، والتي اختلفت كثيرا عن تلك التي كانت في منطقة الوردية. أناس من لحم ودم -ولو بمواقف حادة وأحكام مسبقة- كانت لهم الهواجس والهموم نفسها. عندما أنجبت مديرتنا طفلتها الأولى، حملنا باقة ورد وزرناها في بيتها. كانت المرة الأولى، كابن رأس بيروت، أرى فيها الأشرفية من فوق.
بعد تخرجي من الجامعة اللبنانية، عملت في مجلة "المونداي مورنينغ" لنقيب المحررين الراحل ملحم كرم. لاحقاً، قرر نقل وتوحيد المكاتب في الأشرفية بعد انتهاء الحرب. هناك كان الاكتشاف الكبير، الانفجار الكبير، والتعارف عبر الصدمة. كان الزملاء والزميلات من المسيحيين الذين لم تطأ أقدامهم بيروت الغربية ولم يحتكوا مع مسلم لبناني من قبل. يا له من لقاء وتعارف قاس وجميل في الوقت نفسه! رغم صعوبة المرحلة وتحدياتها، تعايشنا مع بعضنا في المجلة تحت مظلة النقيب الذي أراد هذا الاجتماع. تعلمت الكثير في "المونداي مونينغ" في الأشرفية، والتي اختلفت كثيرا عن تلك التي كانت في منطقة الوردية. أناس من لحم ودم -ولو بمواقف حادة وأحكام مسبقة- كانت لهم الهواجس والهموم نفسها. عندما أنجبت مديرتنا طفلتها الأولى، حملنا باقة ورد وزرناها في بيتها. كانت المرة الأولى، كابن رأس بيروت، أرى فيها الأشرفية من فوق.

واجب وطني وإنساني التفهم والتعاطف والتضامن مع مسيحيي لبنان. فتجربتهم في "بلاد الأرز" تبقى فريدة ومميزة. وهم، كما أراهم اليوم، فرح البلد. بينهم والحياة مصالحة وتفاهم، يحسنون الاحتفال بها، وعندما يحزنون، تكون دمعة أو أكثر بقليل. تاريخهم الصاخب بالانكسارات، لطالما برعوا في امتصاصها، ليتحول استمرار وجودهم نصراً وحفاظاً على الجماعة. وردة مميزة ضمن حديقة ورود. "لا يطلبون ماءً... بل سكوت وصمت صلاة" (رحم الله الموسيقار ملحم بركات). ليس لنا أن نعلمهم كيف يتعاطون مع السماء، ولا كيف يأكلون ويشربون، ولا ما يرتدون. فهم أخوتنا في الوطن "الناقص"، كانوا فلاحين، فأكرمهم فخرالدين، ثم اختبروا المذابح والتهجير، وكانت لهم أيام ذهبية أيام ورثة نابليون وامبراطوريته، فعرفوا العز والازدهار حتى ضاعت فلسطين على مرحلتين. أصابهم الخوف في الفترة الأخيرة، فقامروا بمصيرهم ومصير الوطن، وفي نهاية الحروب، خسروا، لأن الخائف يخيف ويتهور، والتهور يقود الى الهاوية. معاً هوينا، سقطنا، ولو أننا نتشنا حصة كبيرة من كعكة الوطن.
ضاع الوطن، بشعوبه المسلمة والمسيحية، بين جارين: أحدهما شرس، متوحش، فتنوي. والآخر طامح ويعتبر نفسه "أم الصبي".
إذا أردت أن تعرف شعباً حق معرفة فقم بزيارة مناطق سكنه وعيشه. زرت مناطق وقرى مسيحية كثيرة، وخرجت بانطباع واحد: إنهم يولون الاهتمام بشوارعهم والمساحات العامة، تماماً كما يهتمون بديكورات بيوتهم من الداخل. لطالما سحرتني مدينة جونية، وجبيل، وعمشيت، والبترون... وحتى الهري وبرك الملح. سحرني مزار القديس شربل، ومنطقة حاريصا المشرفة من فوق على الخليج تحت. كل شيء، كل تفصيل، مرتب نظيف الى درجة أنك تخاف أن تفسد الزفت وأنت تمشي. الإيمان المسيحي فيه الكثير من الصمت (دين عبادة ع السكيت). عشقت منطقة المتن من النظرة الأولى. وكانت لي زيارات كثيرة إلى بكفيا وضهور الشوير وبولونيا. يا الله، كم يحب هذا الشعب الحياة. حتى حي النصارى في صور مميز. وكم يعرف كيف يحتفل هذا الشعب بالحياة. هي عطاء من الله، فعليه أن يحافظ عليها بأبهى حلة، وأن يضيف إليها المزيد.

منذ أشهر، وأنا أزور وأتلقى العلاج في مستوصف الأسنان في الجامعة اليسوعية. في البداية تردّدت، لكن تكلفة العلاج ونصيحة من صديقي العميد المتقاعد، دفعتني إلى هذا الصرح العلمي العريق. لا أخفي أنه كانت لدي أحكام مسبقة، وشيء من الخوف. لكن ما شجعني أيضاً، أنني كنت أصطحب ابني صغيراً إلى المستوصف حيث اعتنوا به وعالجوا أسنانه، وهو كان يعاني "رهاب طبيب الأسنان". وأنا لست أفضل منه هنا. في البداية لم أتأقلم مع الروتين الإداري، فكل جديد صعب ومعقد. ولا أخفي أنني فكرت مراراً في التوقف عن الاستمرار. لكن ما شجعني هو حسن إشراف الدكتورة كوليت بويز والأطباء والطبيبات المتمرنين المساعدين لها. فريق عمل متكامل هو المستوصف. يعمل كخلية نخل من الصباح حتى المساء. يأتي المرضى في الصباح، لاستلام ملفاتهم، وتقسيط مستحقاتهم، ثم يصعدون إلى الطوابق العليا في قاعة الانتظار. ثم تبدأ سيمفونية العمل بالعزف: يخرج الأطباء والطبيبات (يشكلن الأكثرية)، ينادون لمرضاهم بلطف وبسمة، ويصطحبونهم الى قاعات العلاج الشاسعة حيث يبدأ الشغل على كل حالة تحت إشراف كبار الاطباء، وجميعهم أصحاب باع وخبرة طويلة واحتراف.
شخصياً، تلقيت ولا أزال أتلقى أفضل العلاج لحالة أسناني المستعصية، والتي حسب تحليلي "لقمم واجتماعات" الأطباء، أنها من الحالات الصعبة، وتتطلب الكثير من الصور والتنسيق والتخطيط. يتمتع هذا المستوصف في الجامعة بأهمية عالية، ليس لأنه يخرّج أفضل أطباء الأسنان في البلد، بل أيضاً، لأنه يقدم العلاج البديل والأقل كلفة والأفضل نوعية من الخارج في العيادات الخاصة. صرت أفهم لماذا قامت وتطورت بيروت على صرحين تعليميين كبيرين: الجامعة الأميركية والجامعة اليسوعية.
"فرانكوفوني ع أنكلوسكسوني... وبيروت هي الكسبانة".
"فرانكوفوني ع أنكلوسكسوني... وبيروت هي الكسبانة".
قامات ثقافية لبنانية مسيحية تركت بصماتها وتأثيرها على ثقافتي ووعي وأنا الآن في الستين. السلسلة الطويلة: حضور جماعة أنطون سعادة في شارع مدام كوري، جماعة اليسار من رفاق وجيرة زياد الرحباني، ومرسيل خليفة وأغانيه، الرحابنة، وكل من غنى لبيروت (ماجدة الرومي وغيرها)، الدكتور كمال الصليبي، جريدة "النهار" وعائلة تويني، الكاتبة إميلي نصرالله، محطات تلفزيونية ناجحة (أل. بي. سي)، الموسيقي وليد غلمية، ملحم بركات، وديع الصافي، زكي ناصيف، الرئيس فؤاد شهاب، فؤاد بطرس، بيار صادق، مارون بغدادي، نجوى كرم، سميرة توفيق، جورج ديب، أمين معلوف... وجبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة ومي زيادة. ولا أنسى البطريرك المعوشي، ريمون اده، ميشال شيحا، نصري المعلوف، بطرس البستاني، أمين نخلة، وجماعة شعر (يوسف الخال، أنسى الحاج، شوقي أبو شقرا.)، وكثر غيرهم.
رحلت عنا مؤخراً الإعلامية هدى شديد بعد صراع طويل مع مرض السرطان. كانت لكل اللبنانيين مثال الشجاعة والصبر والإرادة التي لا تنكسر. الجميع تعاطف معها. وهي أعطتنا مثال المرأة القوية القادرة على تحمل أقسى أنواع الآلام، وكان قبولها لمرضها درساً لا يمحى. كانوا مجموعة من النساء من كل الطوائف يزورونها كل يوم لغسل قدميها. كانت هدى للناس في زمن شديد.
قديماً، قيل: "الحي يلي ما فيه نصارى.. خسارة".
واليوم علينا أن نقول، كي نحفظ البلد، ودوره الرائد في منطقة تغلي بالصراعات الدينية والطائفية: "الوطن يلي ما فيه نصارى... خسارة".
(*) على هامش الانتخابات البلدية في بيروت والدعوة إلى المناصفة، الخطر الذي يحيقها.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها