"خطّ التماس": فداء البزري تعيد تركيب الحرب بذاكرتها الطفولية...لتُشفى

محمد صبحي الثلاثاء 2025/05/06
المواجهة أفضل من الصمت والنسيان. فداء بزري تعاين الحرب بذاكرة طفولتها.jpg
المواجهة أفضل من الصمت والنسيان. فداء بزري تعاين الحرب بذاكرة طفولتها
حجم الخط
مشاركة عبر
الحرب الأهلية اللبنانية لم تنتهِ. كذلك لم تنضب أسئلتها وحكاياتها و"تروماتها". "خطّ التماس"، المعروض أخيراً ضمن مهرجان "شاشات الجنوب" يستعيد قصص الحرب بعيني فتاة لبنانية تواجه ذاكرتها العنيفة. فيلم مباشر في نواياه السياسية وصريح في نهجه البنائي، عبر إعادة بناء شاملة للحرب الأهلية اللبنانية من قِبَل المخرجة سيلفي بايّو كما شهدتها بطلة الفيلم وكاتبة السيناريو المشاركة فداء بزري.
 
كانت فداء بزري طفلة صغيرة عندما احتجزها مسلّح تحت تهديد السلاح في ذروة الحرب في الثمانينيات، ذكرى سكنتها وطاردتها معظم حياتها. بعد مغادرتها إلى فرنسا في سنّ مبكرة، تعود إلى بيروت لتشرع في مسعى فنّي لفهم ما حدث خلال العقد الأكثر دموية في تاريخ لبنان. نشأت برزي أثناء الحرب، وسط "جهنم الحمراء" التي كانت جدّتها تخبرها عنها دائماً. جعلها استخفافها بالموت تشكّ في قيمة الحياة ومعنى هذه الحرب التي لا تنتهي أبداً، والتي كانت تشبه العديد من الحروب الأخرى. خطّ التماس الذي قسّم بيروت زمن الاقتتال الأهلي (1975-1990) يظلّ حتى يومنا هذا جداراً ذهنياً بين الوعي بما كان وما حُجب لاحقاً. بالنسبة لبزري، تضمّن ذلك رؤية مقتولين برصاصٍ مجّاني، مرّت بهم في طفولتها في طريق العودة إلى المنزل مع جدّتها. في ذلك الوقت، قالت جدتها إنهم كانوا "في جهنم الحمرا".

بعد عقود من الزمان، تعود فداء إلى هذا المكان حيث كان الموت جزءاً من الحياة اليومية.
في الشاشة، تصبح هذه الحياة اليومية مدينة دمى شبحية يسكنها جنود من البلاستيك ومغطاة ببقع من الطلاء الأحمر. فداء تمثلها دمية سلكية ترتدي فستاناً أحمر، يشبه الفستان الذي ترتديه كشخص بالغ أمام كاميرا سيلفي بايّو. إعادة بناء الذكريات المجزّأة على شكل لعبة تعني من ناحية منظورها الطفولي السابق، ومن ناحية أخرى مقاربة علاجية للتجارب المؤلمة. تجد البطلة أن الجثث المتناثرة والافتقار إلى التفسيرات التي تبحث عنها في الحاضر، أسوأ من القنابل. تتجوّل في بيروت وتسأل الجيل الأكبر سناً عن ذكرياتهم من أجل ملء الفجوات في ذكرياتها. لكن الماضي لا يمكن جمعه مثل "بازل"؛ سواء كان ماضيها الشخصي أو التاريخي. ما تسمعه، أحياناً من الشخص ذاته، متناقض بشكل مربك. بالكاد يريد أي شخص مواجهة ما فعله، خصوصاً أن الأسئلة الفعلية عالمية: ما الذي دفع محاورها للقتال في هذه الحرب؟

على مدار ساعتين ونصف الساعة، تجري بزري مقابلات مع الأطراف المختلفة في الحرب: حزب الكتائب، والحزب التقدمي الاشتراكي، والحزب الشيوعي اللبناني، وحزب البعث العربي الاشتراكي في لبنان، وغيرها. تستخدم بزري نموذجاً مصغراً لبيروت (نماذج مصغّرة للبنايات، وتماثيل منمنمة) في ثمانينيات القرن العشرين، لتصوير المعارك التي دارت في ذلك الوقت، حيث يتأمّل كلّ ممن أجرت معهم المقابلات أفعالهم أثناء الحرب. يسعى البعض إلى تبرئة أفعاله وإنكار أي أخطاء، بينما يعترف آخرون بجرائم القتل التي ارتكبوها غريزياً.


(يستخدم الفيلم نماذج مصغرة لبيروت لإعادة بناء نشأة البطلة المضطربة خلال الحرب)

النموذج المصغر، وإعادة تمثيل جرائم القتل من قبل الأشخاص الذين صوّرتهم بزري، واللقطات الأرشيفية، والتحليل المكثف للسياسات التي كانت وراء الحرب، لا تجعل المتفرّج (غير اللبناني بالأخصّ) يفهم بشكل أوثق الصراع الذي ما زال غير مفهوم إلى حدّ كبير. النضال من أجل هوية لبنانية حقيقية - أياً كانت - هو التهمة الأساسية وراء أيديولوجيات هذه الفصائل المتناحرة. تلمّح البزري في أحد المشاهد إلى أن هذه الزُمر ما زال قائمة وسليمة، وإن كان ذلك في أشكال متغيّرة؛ وأن عقائدها تتبنّاها الآن أجيال أصغر سنّاً تتصارع مع صراعات هويّة مماثلة. النسيان، كما يؤكّد معظم الذين أجريت معهم المقابلات، هو شريان الحياة الوحيد الذي يمكنهم التمسّك به للتعامل مع صدمة الماضي. وترد البزري على هذه الحجة بالتأكيد على أن العنف الجسدي الذي انتقل من جيلٍ إلى آخر لا يمكن نفضه عبر نسيانٍ جماعي أو عفو عام.

تلوح قضية فلسطين في الأفق. في أحد المشاهد، يشهد العضو السابق في الحزب الشيوعي أنه كان يعتقد في ذلك الوقت أن أفعاله ستحلّ القضية الفلسطينية مرة واحدة وإلى الأبد. وفي وقتٍ لاحق، أدرك أن المعضلة الفلسطينية قد لا تُحَلّ في حياته. تشير بايّو إلى أن الانقسام السياسي في لبنان متأثر جزئياً بوجهات النظر المتعارضة حول كيفية التعامل مع فلسطين. وتبقى الرغبة الكامنة في إراقة الدماء التي كشفت عنها الحرب الأهلية لغزاً لم تتمكّن باليو أو البزري أو نصف الدزينة من المقابلات من توضيحه بشكلٍ كامل.

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث