newsأسرار المدن

"بوكر" والكاتبات العربيات...ما أسباب التهميش؟!

غزلان تواتيالجمعة 2025/05/02
c10f8ad0-61ff-40d3-82d5-44be0fa3409b.jpg
انعام كجه جي
حجم الخط
مشاركة عبر
قبل أيام، أُعلن اسم الفائز بجائزة البوكر للرواية العربية في دورة 2024/2025، وككل سنة يتبادر إلى ذهني سؤال لماذا لم تحصل على الجائزة كاتبة؟ هذا المقال لا يحمل إجابة، إنما هو محاولة طرح تصورات عامة عن ظاهرة تأخُّر المرأة عامة في الدول العربية، وفي المجال الأدبي بشكل خاص.

منذ إطلاق جائزة البوكر الخاصة بالرواية العربية في 2008 (تأسست 2007، وكانت الدورة الأولى في 2008)، حصلت على الجائزة كاتبتان. الأولى في 2011، لكاتبة سعودية مناصفة مع كاتب مغربي وتلك كانت المرة الوحيدة التي تقرر فيها منح الجائزة مناصفة، ومرة ثانية العام 2018، لمصلحة كاتبة لبنانية. للتذكير، فإن الجائزة سنوية، ما يعني أنه خلال 16 عاماً فاز بها 14 كاتباً مقابل كاتبتَين، وهي نسبة ضئيلة جداً تكشف وضعا غريباً. فهل السبب  عدم مشاركة الكاتبات، بسبب افتقارهن للثقة الكافية، أو عدم ميل دور النشر إلى الوثوق في نصوصهن، وبالتالي المفاضلة بين الترشح بنص لامرأة وآخر لرجل، يحسم الاختيار فوراً؟ أم أنه من النادر أن توفق كاتبة ما بإنتاج نص جيد يمكنه منافسة نص كاتب ويقف ندا للنِّد، أسلوباً وجدّة وجرأة وموضوعاً؟ لكن هذا الاحتمال ضئيل، لعلمي بوجود عدد لا بأس به من الأديبات الجيدات جداً باللغة العربية.

بين كاتبة وكاتبتين
في اللوائح القصيرة التي عادة ما تضم ست روايات، في الدورات المختلفة، لاحظت أن عدد الكاتبات المتأهلات لها منذ دورة 2008 وبشكل شبه منتظم، هو كاتبة واحدة أو كاتبتين. وفي دورتين، تأهلت ثلاث كاتبات، بينما هناك دورة واحدة لم تتأهل فيها أي رواية لكاتبة. ثم بحثنا في اللوائح الطويلة، ليتبيّن أنها عادة ما تضم عدداً أكبر من النساء يصل أحياناً إلى الصف (أي ثماني كاتبات مقابل ثمانية كتّاب). إنما بخلاف حال المناصفة النادرة، فالغالب هو أن يتراوح عدد الكاتبات بين أربع وخمسٍ في تلك اللوائح، ما يعني أن هناك مشاركة لا بأس بها، وإنتاجاً روائياً مؤنثاً يوازي أو يتفوق أحياناً من حيث الكم على المنتج الروائي المذكّر.

لكن هذا لا يفسِّر شيئا لأنَّه الأرقام ربما تكون دليل رداءة لا دليل جودة، فهل يكمن الخلل في لجان التحكيم التي تتغيّر دورياً؟ وبالنظر إلى لجان التحكيم المؤلّفة عادة من خمسة أعضاء، ومن دون أي مفاجأة، فإن غالبة اللجان من رجال. منذ بداية الدورة وحتى العام 2014، كانت اللجنة تضم امرأة واحدة، وفي ما بعد توسعت لتضم امرأتين، ثم في حالات أقل ثلاث نساء وفي مرة واحدة، حصراً، أربع سيدات، زاد فيها عدد المُحكِّمَات عن عدد الرجال لتكون دورة نسائية على مستوى التحكيم. رغم ذلك، وفي تلك الدورة بالذات، تأهلت كاتبة واحدة، وفاز كما هو منتظر كاتب. هكذا فلجنة التحكيم، كونها تتكون من رجال أو نساء، تبقى بلا تأثير يُذكر، ولا يغير هذا في الأمر شيئاً، وعليه يُستبعد أن يكون السبب هو غياب تمثيل المرأة في لجان التحكيم، كما يُستبعد أن يُعزى السبب إلى عدم مشاركة النساء.

(منصورة عزالدين)

إذن أين الخلل؟ لماذا لا تفوز كاتبة إلا نادراً؟
الإجابة معقدة، وكل محاولة لحصرها في نقطة أو اثنتين أو حتى ثلاث، يعتبر ضرباً من الاعتداد بالذات. أمام أي ظاهرة، يجب التريث والاحتراز الكبير من عدم إطلاق أحكام بدلاً من محاولة الفهم. من وجهة نظر أدبية بحتة، فإن اختيارات اللجان مبنية أساساً على الذوق، وعليه لا يمكن الاعتراض على قراراتها، إلّا أن هناك أموراً أخرى تحدّد الذوق، كالمجتمع، الأدب نفسه، الحالة فكرية، الاستجابة بوعي أو بغيره إلى ما ينتظره القراء، أو على النقيض الرغبة في عدم الاستجابة لما ينتظره المتلقي أو يتوقعه... واعتباراً لهذه الجزئيات، فإن كلّ عضو من اللجنة محكوم بخلفية معينة، وهنا معضلة أخرى لا يمكن حلُّها، في حال غياب تقارير تفصيلية عن الأسباب التي أدت إلى فوز هذا النص أو ذاك، وهو طبعاً أمر مقبول أن لا تخبر اللجنة بتفاصيل مماثلة.

مع ذلك، تسربت هنا أو هناك شذرات من تقارير تتيح الاستنتاج بأنَّ الأهمية تعطى أساسا إلى: العنصر الفني، جرأة الكاتب(ة)، طريقة السرد، الموضوع، والتقنية والأسلوب، بالإضافة إلى النقد الاجتماعي أو التاريخي أو السياسي أو الأخلاقي، وهي عناصر لا يمكن لأي كاتب أن يَحيد عنها في صنعة الكتابة. وهذا له معنى واحد، وهو أنّ الروايات الي تؤلفها نساء، والتي بلغت اللائحة القصيرة لجائزة "بوكر العربية"، فيها من المعايير ما يؤهلها لأن تظفر بالجائزة. فيُفترض أن القراءة نفسها طُبّقت عليها، القراءة التي أدت إلى فوز رواية من تأليف كاتب رجل. المسألة إذن لا تكمن في جودةٍ أو تقنيةٍ أو أدبٍ، خصوصاً أن بعض تلك الروايات للكاتبات لاقت نجاحاً مهماً في مقامات أخرى أو بين القراء مثل (رواية أميرة غنيم "نازلة دار الأكابر"، منصورة عزالدين "وراء الفردوس"، إنعام كه جي "الحفيدة الأميركية"، أو عالية ممدوح "التانكي"... على سبيل المثال لا الحصر).

(أميرة غنيم)

وعليه أجدني، هنا أيضاً، أمام باب موصد، في محاولة فهم هذا التأخر وتفسيره بالأسباب الموضوعية. هكذا، يبقى النظر إلى الأسباب غير الموضوعية، والتي لا علاقة لها بالجائزة بشكل مباشر، بل لها بالموقف من المرأة عامة، من المرأة الكتابة، من وجودها ونشاطها في الفضاء العام من دون أن تتعرض للمحاكمة الاجتماعية، أو السياسية. صحيح، ولا يحتاج إلى دليل، أن المرأة الآن تتمتع بحرية وجرأة وتكتب وتنتج بشكل كبير، يوازي أو يتفوق على الرجل ولو من حيث الكم، لكن الموقف نفسه يتكرر: أن تبقى الكاتبة في مرتبة ثانية، أن تنتظر حتّى يتهيّأ لها الوقت والمكان والفرصة المناسبة. في لجان التحكيم، ذاتها، يسود هذا التفكير الذي لا يعلن عن ذاته بشكل واضح ومباشر، بل بالمداراة والتمويه أو بطريقة غير واعية مبهمة، غائرة في اللاشعور المتشكل من أحكام اجتماعية، وتعبّر عن وضع المرأة داخل المجتمعات. فعلى الرغم من أنَّها متعلمة وتعمل، وفي بعض الأماكن تكون غالبية القوة العاملة أو التوظيفات من النساء، إلا أن المنصب الأعلى يكون لرجل. فالمناصب ذات السلطة لرجال دائماً، وفي الأدب سلطة وسطوة يجب أن تبقى بين أيدي الرجال، ولا بد من فعل كل ما يستلزمه الحفاظ عليها، ليس بالطرق القديمة العنيفة طبعاً، إنّما بالطرق اللطيفة التي ترضي الجميع، بمن فيهم المرأة نفسها. إحدى تلك الطرق أن يُدرَج عدد لا بأس به من روايات لكاتبات في اللائحة الطويلة، وهو ما تتلقاه الكاتبة ومَن حولها كاعتراف بجودة عملها وقبولها داخل الوسط ككل.

لكن هذا الاعتراف لا يرقى إلى مستوى أعلى، كأن تصبح النساء هن الفائزات في دورات متلاحقة مثلاً، أو أن يكنّ غالبية الفائزات في معظم الدورات كما هو حال الكتّاب الرجال حالياً. يذكرني هذا بسلوك المدارس الاستعمارية، التي كانت تمنح الفرصة لأطفال المستعمرات بالدراسة لكن حتى مستوى معين، يتم بعده توجيه الطفل إلى التكوين المهني، لسد الطريق أمام هؤلاء الأهالي خشية أن يصبحوا من الطامحين إلى مناصب حُجِزت أصلاً للمحتل الذي يتمتع بمرتبة عليا لا تتاح للأهالي.

النساء أول مَن يستبعد النساء
هكذا هو الحال يجب ولو بشكل غير واع، الوقوف في طريق المرأة كي لا تول إليها السلطة، ولنتخيل فقط أن الأديبات يصبحن هن المقياس للأدب العربي؟ مجرد تخيّل ذلك يثير الغثيان عند غالبية المجتمع، وهو ما يفسّر أنه حتى في حالة لجنة التحكيم مكوّنة من غالبية نسائية، فإن خشيتهن من أن يُعتقد فيهن التعصب للمرأة أو الانحياز لها، جعلهن أول مَن يستبعد المرأة، لأنهن يتقاسمن التفكير ذاته مع المجتمع، ولخوفهن من الاعتقاد بأنهن متحيزات للكاتبات مثلهن، وهو ما يشكل تهديدًا لهن ولتواجدهن الشخصي في مثل هذه الأوساط المغلقة.

من جهة أخرى غالباً ما تقال جملة وكأنها تهمة: أن المرأة تكتب فقط عن قضايا تخصُّها، عن التمرد أو عن الخنوع، عن الحب، عن مآسيها هي، عن مشاكلها الجنسية، أو عن أشياء لا يعتبرها الأدباء مهمة، أو يتجاهلونها رغبة منهم في الحفاظ على الحدود التي سطرها المجتمع والواقع سلفاً. هذه الملاحظة تكبّل كتابة المرأة وتجعلها أيضاً من الدرجة الثانية، لأنها تقوم على أساس أن الكاتبة لا تتوجه بخطابها إلى الإنسان، بل إلى جنس بعينه، وهذا طبعاً مبرِّر قد يكون واقعياً، لكن هل يجعل هذا الأدب أقلّ قيمة من أدب الذكور؟ وهناك من سيقول لك: هل للأدب جنس للكلام بهذا الشكل؟ الإجابة: لا! ليس له جنس، لكن السلوك اتجاه الأدب، بلى! 

(عالية ممدوح)

هذه النظرة نابعة من نظرة أخرى خاطئة بدورها، وهي أن أي أدب ملتزم هو أدب ضعيف، وبالتالي أدب المرأة الملتزم بقضاياها، أحياناً من دون رغبة أو وعي منها، هو ضعيف حتماً وبالتالي لا يستحق أي اكتراث. لكن هذا المبرر يستعمل بشكل تعسفي للإقصاء. روايات كثيرة لكاتبات لا تهتم لهذا الأمر، وتغامر في مواضيع تجريبية غاية في الجرأة. وبعد أجيال كثيرة ثمة مَن سيتساءل، كما نتساءل الآن: لماذا لم يعرف العالم العربي أديبات مهمات؟ لماذا لم يعرف العالم أديبات كبيرات وفيلسوفات؟ هذا السؤال نسأله دوماً، لكننا لا نفكر للحظة أن النساء كنّ دوماً مُستبعدات وفي الغالب ممنوعات من الكتابة، وإن كتبن فبشكل خجول لا تذكره كتب التاريخ التي دوّنها غالباً مؤرخون رجال يعتبرون، ربما بحسن نية، أن مساهمة النساء غير مهمة. 

ختاماً، ملاحظة أخيرة تتعلق بالجائزة نفسها، وباختيارات اللجان للمواضيع الغالب فوزها في البوكر العربية، وهي في المجمل ترتب كالآتي:
1. مواضيع تاريخية، أو ما أصبح يسمّى "الرواية التاريخية" سواء التاريخ الكولونيالي، المعاصر أو الإسلامي، تليها 2. الرواية التاريخية الفنتازية، 3. وفي درجة أقل الرواية السياسية، 4. ربما تبقى روايات: السيرة أو الرسائل أو مواضيع مجتمعية ونفسية، نادرة جداً. هذا توجيه يبدو غير مقصود، لكنّه خطير، لا سيما بعدما أصبحت وسيلة الاشهار الوحيدة للكاتب هي فوزه بجائزة أو ظهور اسمه في إحدى اللوائح الطويلة أو القصيرة. حتى أن البعض بات يكتب في غلاف كتابه "فائز بالقائمة القصيرة". لم أفهم يوماً معنى ذلك، لكن لا بأس ما دامت الطريقة الوحيدة للتعريف بالذات الكاتبة.

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

  • image
  • image
  • image
  • image
  • image
subscribe

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث