"كل فيلم عن بلفاست يبدأ هكذا"، بتلك الجملة الافتتاحية مصحوبة بصور أرشيفية لانفجارات ومشاهد اشتباكات بين متظاهرين وجنود مدججين بالسلاح، يعدنا فيلم "نيكاب" بأنه سيبدأ بطريقة مغايرة. مشهد العماد كاثوليكي الافتتاحي داخل غابة، والذي يفسده تحليق طائرات الجيش البريطاني أعلاه، لا يحوي العنف المعهود في حقبة "الاضطرابات" بإيرلندا الشمالية، ومع هذا لا يخلو من عداوات ما زالت قائمة أو أثر منها، وتشكك متبادل وسوء ظن. يعدنا "نيكاب" بقطيعة، ربما نهائية مع سينما "الاضطرابات"، فهو بالأساس فيلم عن"أطفال وقف إطلاق النار"، الجيل المولود مع توقيع اتفاق "الجمعة العظيمة". يقدم فيلم "نيكاب" سيرة مختلقة وساخرة لفرقة الهيب هوب الحقيقة التي تحمل الاسم نفسه. ويقوم أعضاء الفرقة الثلاثة، بلعب أدوارهم في الفيلم.
بعد الاعتراف بالإيرلندية كلغة رسمية في إيرلندا الشمالية في العام 2022، يرفض تاجر المخدرات الشاب، ناويس الإدلاء بأقواله باللغة الإنكليزية في تحقيق في قسم الشرطة، ويتظاهر بعدم فهم الإنكليزية ويطلب مترجماًُ. هكذا يتعرف مدرس الموسيقى في المدرسة المحلية، أو دوشارتي، على ناويس، بعد استدعائه ليقوم بالترجمة له إلى الإيرلندية. لكن وبدلاً من القيام بدور الوسيط المحايد، تتحوّل الإيرلندية إلى لغة تواطؤ بين الإثنين. أثناء التحقيق يقوم أو دوشارتي بأخفاء دليل إدانة ناويس، الكراسة الصغير التي تحتوي على لاصقات المخدرات، وكذلك نصوص لأغاني هيب هوب بالإيرلندية. وينتهى الأمر بالإفراج عن ناويز، الذي يتوجه في اليوم التالي مع صديق طفولته وشريكة في تجارة المخدرات، ليام، إلى منزل أو دوشارتي، لتسجيل أول أغانيهم معاً.
يقدّم مخرج الفيلم، ريتش بيبيات، توليفة مضمونة من المتعة، فرحلة صعود الفرقة من حفلات متواضعة في بار شبه فارغ إلى ساحات مفتوحة مكتظة بألوف المعجبين، يتخللها الكثير من الهزل والعنف والعربدة وخفة الدم، ومع لقطات مقربة للوجوه تلتقط مشاهد تعاطي الكوكايين، على خلفية من الموسيقى الزاعقة لأغاني الفرقة، ويحقن هذا كله بمعنى سياسي، "فكل كلمة بالإيرلندية هي طلقة من أجل إيرلندا". توظف حبكة روميو وجوليت، في العلاقة الهزلية بين ليام وحبيبته جورجيا البروتستانتية، والتي تثيرها الشعارات السياسية الجمهورية، مثل "لا استسلام" التي يكررها ليام لها أثناء ممارسة الجنس فيما تقوم هي بضربه. تنبع الكوميديا أيضاً من المفارقة في أزدواجية حياة أو دوشارتي، المدرس المتحفظ صباحاً، والدي جي المقنع في الليل والذي يكشف على المسرح مؤخرته العارية والمكتوب عليها شعار "البريطانيون إلى الخارج".
اللعب بالشعارات الجمهورية في غرف النوم وعلى المؤخرات العارية، لا يعنى نبذاً لها، بل الاعتراف أنها لم تعد سوى تذكارات، قد تكون مثيرة أو قد تكون فضائحية، لكن الأكيد هو أن زمن القنابل قد ولى. تتكثّف تلك الفكرة في شخصية أرلو، وهو والد نويس، وعضو الجيش الجمهوري الإيرلندي الذي يقوم بتزييف موته والاختفاء لسنوات هرباً من القانون. يمثل أرلو الحي-الميت، شبح الماضي المصمم على الإنكار.
في تأبين مزيف في الذكرى العاشرة لوفاة أرلو، نلمح أحد الحاضرين بكوفية فلسطينية حول عنقه وفي مشهد آخر نرى علماً فلسطينياً معلقاً على نافذة، هذا غير عشرات اللقطات لغرافيتي في شوارع بلفاست بشعارات ضد الوجود البريطاني. في الواقع، تناصر فرقة "نيكاب" الحقوق الفلسطينية بإخلاص، ويرفع أفرادها الأعلام الفلسطينية في حفلاتهم بشكل دائم. ثمة شيء مأسوي في هذا كله، فبقدر ما أن جيل "أطفال وقف إطلاق النار" يحظى برفاهية الهدوء بما يسمح بتحويل النضال إلى مواجهة ثقافية، تتعلّق باللغة والغرافيتي والغناء بينما يظل البريطانيون باقون، فإن القضية الفلسطينية تُختزل إلى مجرد كوفية وعلم، أي إلى مجرد مواجهة رمزية أخرى، بينما المذبحة تظل مستمرة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها