من رحم الأزمات والمحن يولد الإبداع الصادق، وما أكثر تلك المحن التي شهدها ولا يزال يشهدها عالمنا العربي. اليوم يتعرض لبنان لعدوان إسرائيلي جديد، والبارحة قبل 57 سنة عاش الوطن العربي كله أجواء حزيران 1967 بكل قسوتها وحزنها، وفي وسط تلك الأجواء القاتمة والملبّدة بالمشاعر المختلطة والرؤى الضبابية خرجت من قلب لبنان واحدة من أكثر الأغنيات الوطنية العربية حماسة وعذوبة بعد نحو ستة أسابيع فقط على هزيمة حزيران. ففي الوقت الذي كان يحاول فيه الوطن لملمة جراحه، كان الموسيقار محمد عبد الوهاب يصدح من ألحانه وكلمات وتوزيع الأخوين رحباني "طول ما أملي معايا وفي أيديا سلاح، ح أفضل أجاهد وامشي من كفاح لكفاح، طول ما إيدي في إيدك ح افضل واقف واهتف وأقول حى حى على الفلاح" كأقوى تعبير عن روح المقاومة والإصرار على نفض غبار الهزيمة، ليعبّر عبد الوهاب في صرخة موسيقية صادقة عما أحب أن أسمّيه "شموخ المنكسر"، واختار لها مقاماً موسيقياً حزيناً هو مقام "الصبا" لكن على نغمة "النوا" أو حرف الصول وليس حرف الرى على السلم الموسيقي كالمعتاد، كي يُكسب اللحن قدرة حماسية لا يستهان بها، زاد منها التوزيع البديع الذي صاغه الأخوان رحباني اعتماداً على الآلات النحاسية بما تعطيه من أثر فى نفوس المستمعين.
وقد تجلت في توزيع هذه الأغنية أقصى درجات الاستيعاب الذكي من جانب الرحابنة للحن عبد الوهاب ومتطلباته الموسيقية، بالإضافة إلى المرحلة العمرية التي كان يمر بها صوت موسيقار الأجيال السائر نحو السبعين من عمره. فقد وجدا حلولاً فنية مبتكرة لكل المشكلات التى يمكن أن يخلقها وضع كهذا. فمقام الصبا الشرقي القائم على أرباع النغمات لا يناسب الآلات النحاسية التي تعتمد فقط على أنصاف النغمات، ومن هنا قرر الأخوان رحباني الاعتماد في افتتاحية النشيد التي تؤديها النحاسيات على جملة موسيقية تتجاوز النغمة الثانية في مقام الصبا، ذات الثلاثة أرباع التون مع قاعدة نغمية ناعمة وحزينة تقوم بها الوتريات في خلفية اللحن. وهكذا جمعت المقدمة الموسيقية بين الحماسة والحزن في آن واحد، فيما ارتأى الثلاثة – عبد الوهاب والأخوان رحابني – أن تبدأ مجموعة الكورال الغناء من الطبقة العالية زيادة في الإحساس بالشموخ والحماس وروح التحدي على أن يبدأ عبد الوهاب غناءه من المنطقة اللحنية الأقل علواً والتي تناسب صوته.
اللافت أن قصصاً وحكايات انتشرت في مواقع الشبكة العنكبوتية حول ظروف وملابسات هذه الأغنية الفريدة، أشهرها أن عبد الوهاب كان يستقل في بيروت بعد أيام من هزيمة 1967 سيارة جمعته والأديب إحسان عبد القدوس والفنان فؤاد المهندس وزوجته الفنانة شويكار، وأن الموسيقار الكبير كان يجلس في المقعد الأمامي ونصف زجاج نافذته مفتوح، فيما جلس الثلاثة الآخرون في المقعد الخلفي والنافذتان مفتوحتان إذ كانت شويكار تدخن سيجارتها. وفجأة انتبه الجميع إلى عبد الوهاب يطرق على زجاج نافذته ويغني "حي على الفلاح" ولما حاولت شويكار استجلاء الأمر، نهاها عبد القدوس عن فعل ذلك مؤكداً أنهم يشهدون مولد لحن جديد، وقد سألتُ الفنانة الراحلة أثناء وضعي كتاب تكريمها في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي العام 2009 عن صحة هذه الواقعة فردت باقتضاب: مش بالظبط كده، ولم تشأ أن تضيف.
لكن الإضافة جاءت من منصور الرحباني نفسه، ففي معرض حديثه عن ذكرياته مع عبد الوهاب/ قال للكاتب هنري زغيب في كتابه "في رحاب الأخوين رحباني" الذي هو نسخة معدلة من كتابه الأول "طريق النحل" ما نصه: "على أن علاقتنا بعبد الوهاب لم تتأثر يوماً بأي شائبة، بقينا على صداقة وطيدة لم نتزعزع، وأذكر أن عبد الوهاب كتب فى مكتبنا (بدارو) نشيد: طول ما أملي معاي وفي إيدي سلاح، ولحنه من نغمة الصبا وطلب مني أن أوزعه، وأضع له نحاسيات في نغمة الصبا كما فعلنا في "فخر الدين" ووزعت له النشيد حسب رغبته وسجله في ستوديو بعلبك".
ويلفت الانتباه هنا استخدام منصور رحباني عبارة "كتب في مكتبنا نشيد"، فهل هذا معناه أن عبد الوهاب هو صاحب كلمات النشيد، لا الأخوان رحباني كما هو مستقر؟ إذا حاولنا الربط بين روايتي شويكار ومنصور يمكن أن نستخلص أن عبد الوهاب أتى إلى مكتب الرحابنة وفي ذهنه بداية نشيد "حي على الفلاح " شعراً ولحناً من مقام الصبا ،بحسب ما جاءته الخاطرة وهو في السيارة بصحبة الأسماء المذكورة، وأن الأخوين عكفا على استكمال الكلمات ومضى هو في تلحين بقية النشيد في مكتبهما، ثم قام منصور بتوزيع النشيد موسيقياً وفقاً لرغبة عبد الوهاب حتى سُجل في ستوديو بعلبك تحت إدارة مهندس الصوت فريد أبو الخير، وهو ما استمعت إليه الآذان العربية للمرة الأولى في 28 تموز/يوليو 1967.
ويلفت الانتباه أيضاً في كلام منصور الرحباني، إتيانه على ذكر أوبريت "أيام فخر الدين" الذي طلب عبد الوهاب توزيع نشيده الجديد على نهجه، وفي خلفية ذلك واقعة تعود إلى أشهر سبقت هزيمة 1967 ووجود عبد الوهاب في لبنان أثناءها. فقد قام الأخوان رحباني وفيروز وشقيقتها هدى حداد، بزيارتهما الثانية إلى مصر في الفترة ما بين 14 و28 تشرين ثاني 1966، وخلال تلك الزيارة اصطحب منصور وعاصي معهما أشرطة أوبريت "أيام فخر الدين" الذي قُدم للمرة الأولى في مهرجان بعلبك المنعقد في الفترة ما بين 20 تموز و7 آب 1966، وأسمعا عبد الوهاب الأوبريت كاملاً أثناء زيارتهما لمنزله، فأعجب أيما إعجاب بالألحان والتوزيع لدرجة أنه رافق فيروز ومنصور وعاصي في زيارتهم لمنزل أم كلثوم أثناء تلك الرحلة، وأخذ يكيل المديح لهذا الأوبريت، وأعاد الاستماع له في معية كوكب الشرق في ذلك المساء، وليلتها وصفت أم كلثوم ذلك التوزيع بالإعجاز، ويبدو أن عبد الوهاب ظل محتفظاً بانطباعه الطيب عن توزيع الأوبريت حتى أتته فرصة تكراره في نشيد "حي على الفلاح". وقد حكى لي مجدي العمروسي، مدير شركة صوت الفنّ، أنّ أم كلثوم كانت أيضاً راغبة سنة 1969 في أن يتولى الأخوان رحباني توزيع نشيد "أصبح عندي الآن بندقية" من شعر نزار قباني على غرار توزيع نشيد "حي على الفلاح" لولا ضيق الوقت، وهي المهمة التي قام بها أندريا رايدر.
وربما كان من المفيد ختاماً الإشارة إلى أنّ المطربة نجاة الصغيرة قامت في العام 1973، وفي حفلة أقيمت في القاهرة لصالح اللاجئين الفلسطينيين، بغناء النشيد ذاته، مضافاً إليه المقطع الخاص تحديداً بالقضية الفلسطينية والذي كان الأخوا رحابني قد كتباه سنة 1967. ورأى عبد الوهاب في حينه استبعاده حتى يكون النشيد معبّراً عن هم الأمة العربية بأسرها، فيما قامت ماجدة الرومي بإعادة غناء النشيد منذ العام 2022 أكثر من مرة من دون أي إضافات وبالكلمات ذاتها التي صدح بها عبد الوهاب للمرة الأولى في أجواء العدوان الإسرائيلي على الأمة العربية في حزيران 1967.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها