لا أستسيغ استخدام عبارة "العرب ظاهرة صوتية"، التي أطلقها الكاتب السعودي الراحل عبدالله القصيمي، لأن فيها قدراً كبيراً من التعميم والتبسيط وحتى الاستفزاز. ولا أستسيغها في كتابة العجالات أو المقالات أو التعليقات، لأنها أصبحت في دائرة الابتذال والاستهلاك اليومي والفايسبوكي، وأُهدر حبر كثير في توظيفها وتدوينها، على الطالع وعلى النازل، كما يقال.
لكننا، إذا راقبنا تصريحات بعض قادة الحرس الثوري، لوجدنا أنه لا مفرّ من هذه العبارة التي تتلبسهم، أو فُصّلت على مقاسهم، وتناسب توصيف خطبهم. لستُ محللاً سياسياً، ولا خبيراً في مسار الحروب و"قواعد الاشتباك"، لكن بمراقبة سريعة لتصريحات قادة الحرس الثوري الإيراني، نجد أنها تزخر بتعابير المحو والزوال والرمي في البحر والمواعيد المفتوحة على الخيال. دائماً في مُتخيَّل القادة الحرسيين، أن اسرائيل ستُمحى بدقائق معدودة، وزوال اسرائيل بات قريباً، وسنردّ في الزمان والمكان المناسبين، لن نقف مكتوفي الأيدي... وسائر القاموس اليومي.
من الأمنيات الدائمة والتمنيات، زوال إسرائيل، والتعبئة الإيديولوجية "مفهومة" في مثل هذه الظروف الراهنة. لكن في الوقائع، هذه الكلمات تصبح مدعاة للسخرية والتسلية والتهكم. فحين قصفت اسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق، وقُتل مَن قُتل من قادة في الحرس الثوري، كانت الضرية صاعقة ومخزية، وقررت إيران الرد، فعلم القاصي والداني بالردّ وتوقيته، وما ستستعمله إيران من صواريخ ومسيّرات وفي أي اتجاه ستُطلق. تحول الردّ إلى استعراض اعلامي، أُفرغ من معناه. كان خلّبياً، كأنه موجه الى الداخل الإيراني، أكثر منه إلى إسرائيل. وحين اغتيل زعيم "حماس"، اسماعيل هنية، على الأرض الإيرانية، كان "التراجع التكتيكي"، أو عدم الرد، هو الرد. ومع تصاعد الهجوم على لبنان نسمع عبارة "جرائمكم في لبنان لن تمر من دون ردّ"...الخ.
وفي لبنان، عشنا على وقع عبارة "اسرائيل أوهن من بيت العنكبوت"، و"اسرائيل في حالة انهيار"... كثر بالطبع يقتنعون بهذا الكلام، يكررونه في جلساتهم أو إطلالتهم التلفزيونية، يتمثالون مع قائله. تغويهم عبارات القوّة وممالك السلاح: "اسرائيل تحت مرمى صواريخ المقاومة"، و"لدينا مئة ألف مقاتل"، و"نملك مئة وخمسين ألف صاروخ". وينتظرون فيديوهات حسن نصر الله وحركات يديه، والأنفاق "الاسطورية" ومعموديات النار وتسميات الصواريخ والمسيّرات.
كل ذلك يوحي بأننا قوة كونية عظمى على قاب قوسين أو أدنى من زوال إسرائيل. لكننان في لحظة، نكتشف هشاشة كل شيء، رغم عزيمة وصمود الشبيبة المقاتلة في الجنوب، وقدرات المقاومة، ومئات الشهداء من النخبة التي، مع ذلك، تستمر. نحن أمام أفعال إسرائيل الإجرامية بالطبع، هي التي لا يسبقها أحد على توظيف كل شيء في سبيل القتل... وفي الوقت نفسه، أمام أقوال المحور الإيراني، الذي اعتاد أن يبني امبراطوريات في خُطبه. نسمع كلاماً عن زوال مطارات ومرافئ إسرائيل بكبسة زر. نشاهد الاحتفالات بمَشاهد التقطتها مسيّرة، بينما اسرائيل تفخخ آلاف البيجرات وتقتل وتعطب آلاف الشبان، وتعرف مواقيت اجتماع قادة "الرضوان" وتغتالهم.
هناك مسؤولية ضائعة عما يحصل، ليس مجرد تفصيل تفخيخ البيجرات بهذا الشكل، وليس الاغتيالات تفاصيل على هامش الحرب. اسرائيل المتوحشة الاجرامية لا تُخبر بما لديها، وما ستفعله، تقوم بحرب الإبادة وتدمر المنشآت والمدن وتنفذ الإغتيالات النوعية وتقتل المدنيين والأبرياء بلا تمييز عن العسكر. وغالباً ما يكون الرد عليها إطلالة إعلامية لمسؤول ما، أو رشقة صواريخ غير مجدية.
لبنان الآن، متروك الآن للخراب والقتل. والمحنة تكمن في أنه من السهل الدخول في الحرب، لكن من الصعب الخروج منها. وفي زمن الأزمات والكوارث، والحروب يكثر الحديث عن المخلّصين. ولا نملك إلا أن نقول: "الله ينجينا".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها