مرة أخرى، تتيح منصات التواصل الاجتماعي منفذاً للنساء المصريات للشكوي من تعرضهن للانتهاكات الجنسية، في ظل منظومة اجتماعية وقانونية ذكورية متواطئة. في حالتنا الأخيرة، قامت خديجة خالد، باتهام صلاح الدين التيجاني، أحد مشايخ الطرق الصوفية، بالتحرش بها في طفولتها. تبع ذلك إعلان مؤسسة قضايا المرأة الحقوقية عن تلقيها شكاوى من ثلاث فتيات اتهمن الشيخ نفسه بالتحرش بهن.
وكما نعرف من القضايا السابقة، يُعدّ التشهير في بعض الحالات وسيلة غير رسمية فعالة لإلحاق الأذى المعنوي بالمدعى عليه والمؤسسات والدوائر الاجتماعية التي ينتمي إليها، وقد يكون هذا الأذى عابراً وهامشياً وسرعان ما يتم نسيان تفاصيل القضية أو تكون له تبعات طويلة المدى. لكن، وفي أغلب الأحيان، يلحق أذى أكبر بالمدعيات أنفسهن. فمن ناحية شخصية، يواجهن الوصم الاجتماعي، ومن ناحية قانونية، قد يتم استدعائهن في المحاكم بتهم التشهير والسب والقذف، بل وفي بعض الحالات واجهت المدعيات أحكاماً بالسجن.
تعيد الماكينة الاجتماعية إنتاج التفاصيل نفسها، في كل مرة أو على الأقل في معظم الحالات. تخرج أمّ المدعية لتبرئه الشيخ ووصم ابنتها بالمرض النفسي. أما الشيخ نفسه، فتوجه إلى القضاء متهماً المدعية ووالدها بالتشهير. تبرأت الطريقة التيجانية من الشيخ، وذكرت في بيان رسمي لها أنها عزلته منذ سنوات، وقامت أجهزة الأمن المصرية بإلقاء القبض عليه على خلفية تهمة التحرش، على أن يعرض على النيابة العامة لاحقاً. لكن، وكما نعرف، تظل تهم الانتهاكات الجنسية التي تحدث في الخفاء عصية على الإثبات.
الفضيحة من هذا النوع، مثل إلقاء حجر في بحيرة راكدة، تسعى قصداً لفضح منظومة الكتمان وخلخلة تراتبية السلطة، وقوتها تكمن في عدم القدرة على توقع مدى الاضطراب الذي قد تخلقه. تتسع دائرة الشبهة لتتجاوز الشيخ، لتلحق بطريقته ولتجلب نقداً للصوفية، من مسافات مختلفة. انتقادات علمانية وبالمعايير العقلانية، ونقد من منطلقات سلفية تتعلّق بالعقيدة وصلاحها. ولأن الحقول الاجتماعية متداخلة بالضرورة، تتجاوز الفضيحة أرضية الديني إلى التخوم الثقافية. في وسائل التواصل الاجتماعي، تُتداول صور لمخرجين وكتّاب وممثلين مع الشيخ، ورسائل متبادلة بينهم وبينه. ومن بين أبرز الأسماء، الكاتب عمر طاهر، والسيناريست عبد الرحيم كمال مؤلف مسلسل "الحشاشين" والذي أثار الكثير من الجدل مؤخراً..
ثمة ميل ملحوظ في بعض الأوساط الثقافية تجاه الصوفية. وكان يمكن تبينه قبل ثورة يناير، لكنه أضحى أكثر حضوراً بعدها، أو للدقة، بعد هزيمتها. وَسم الـ"Cult" (الجماعة الدينية المغلقة) الذي ألصق بمريدي الشيخ التيجاني أو بأتباع الصوفية عموماً، ينسخ الاصطلاح الإنكليزي في سياق مغاير. والحال أن الكثير من العاملين في الثقافة، مثل غيرهم من المصريين، يرتبطون بأواصر عائلية وجهوية بالحركات الصوفية. تاريخياً، شكلت الطرق الصوفية ضلعاً رئيسياً في الثقافة الشعبية لعموم المصريين وبُنى حياتهم الاجتماعية وروزنامتها. إلا أن توجه نظام يوليو الحداثي، ورغبة "ضباطه الأحرار" في تذويب كل صور التنظيم الاجتماعي وتأميمها، قاد في النهاية إلى انكماش تأثير الطرق الصوفية وتراجع حضورها في المجال العام، إلى حد محاصرة الأمن للموالد الروحية والقيام بإلغائها بشكل روتيني. حلّ الإسلام الرسمي، المرتبط بمؤسسات الدولة المركزية، محل صور الإسلام الشعبي الأقرب إلى الصوفية وقام بتدجينها وضبطها داخل مؤسساته. ولأسباب سياسية محلية ودولية شديدة التداخل، برزت إسلامات أخرى قاعدية، بنسخ سلفية وأصولية وراديكالية وجهادية، لتخصم من رصيد الصوفية ومصداقيتها، بقدر منافستها لإسلام الدولة.
على تلك الخلفية التاريخية، قدّمت الصوفية خياراً مناسباً يمكن استيعابه داخل قطاعات من الثقافة، وذلك باعتبارها تمثيلاً لأصالة ما، بل وأصولية أيضاً، في ظل تمدد سياسات الحنين محلياً وحول العالم، وبالأخص مع انسداد أفق المستقبل. وكذلك باعتبارها تمثيلاً لثقافة شعبية وقاعدية، مما يكسبها مضموناً طبقياً بحسٍّ يساري، حتى مع برجزتها لتلائم الأوساط الثقافية وذائقة الطبقة المتوسطة. وكذلك باعتبارها حركة مقاومة مراوغة ضد الدولة وضد الإسلام السياسي. وبلا شك، لعب الجانب الجمالي في الطقوس والممارسات والأكواد اللغوية والبلاغية المرتبطة بالصوفية، دوراً في جعلها الأقرب إلى المزاج الثقافي.
خلال العقدين الأخيرين، أبدت المؤسسة الدينية الرسمية تسامحاً تجاه التيارات الصوفية داخلها، بل وسُمح لها بتسيّد المشهد، سواء في صدارة الأزهر أو في أعلى منصب في دار الأفتاء. ولم يكن لهذا أن يحدث، من دون رضي من السلطة السياسية بالطبع. ثمة هزيمة فادحة أيضاً وفراغ روحي وأيديولوجي هائل وشعور عام بعد الأمان، وعالم يتداعى بثبات حولنا. وسط هذا كله، لا تَعِد الصوفية بتلبية الاحتياجات الروحية فقط، بل تقدّم نفسها بوصفها أحد الخيارات القليلة الآمنة للانتماء الجماعي، من دون صِدام مع الأمن، وللتحليق بعيداً من دون الصِّدام مع العالم.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها