في رواية "العمى" للبرتغالي النوبلي خوسيه ساراماغو، وفي منتصف النهار ليوم غير معلوم، جلس أحد سيئي الحظ خلف مقوده يتابع ألوان إشارة المرور في ترقّب: أحمر.. أصفر.. أخضر.. أبيض، ثم أبيض على الدوام! لم يكن اللون الأخير بقعة ضوئية زائدة في إشارات السير، لكنّه كان بياضاً طاغياً على الأشياء. هذا الرجل الذي كان يرى كل شيء قبل ثوانٍ، سيصيح في السيارات المتعجّلة من خلفه: "أنا أعمى! لا أرى شيئاً!".
تتناول الرواية قصة وباء غامض يصيب أهل مدينة كاملة بالعمى فجأة، مما يخلق موجة من الذعر والفوضى تؤدي إلى تدخل الجيش من أجل السيطرة على الأوضاع. يكشف العمى حقيقتنا كبشر. بعدها يبدأ العميان باستعادة أبصارهم والرجوع إلى بيوتهم، وتنتهي الرواية باقتباس أيقوني لزوجة الطبيب: "لا أعتقد أننا أصبنا بالعمى، بل نحن عميان من البداية. حتى لو كنا نرى.. لم نكن حقاً نرى!".
لسنا بصدد سرد تفاصيل ووقائع الرواية الأيقونة الآن، وهي أصبحت مألوفة لدى القراء وعشاق ساراماغو، بجُملها ومعانيها وتوصيفها للذات البشرية وأزمة الوجود. يمكن إسقاط جانب منها أو حبكة قصتها على ما يحصل في لبنان منذ انفجار 4 آب، إلى تفجيرات "البيجر" واللاسلكي الأخيرة، بل منذ اغتيال رفيق الحريري وحرب تموز 2006 و7أيار 2008 إلى إنهيار المصارف وضياع الودائع. كأننا ساحة حرب ومحكمون بالعمى والعمه بأشكال مختلفة ومتعدّدة، ساحة حرب بصدمات كبيرة...
ما حصل ويحصل في تفجرات البيجرات خارج المعقول والمألوف، جزء من المتخيّل والأبوكاليبس. جزء من تفكّرات "حرب النجوم" التي سوّق لها الرئيس الأميركي رونالد ريغان ولم تتحقّق. جانب من الخيال العلمي الذي لم يعد خيالاً في زمن الذكاء الاصطناعي. فمنذ بدايات الحرب على قطاع غزة، وبالطبع "قواعد الاشتباك" في جنوب لبنان، ساد شعار وحدة الساحات والتهجير والنزوح. كان الحديث عن حرب وجودية، لا مجرد مناوشات، ونتذكر أن إسرائيل، حين شعرت يوماً بأزمة في حرب تشرين 1973، كشرت عن أنيابها النووية.
منذ نحو سنة، وجدنا أنفسنا أمام نوع جديد من الحرب، عماده المسيّرات والاغتيالات التي طاولت مئات المقاتلين والمدنيين من اللبنانيين والفلسطنيين. قدرة إسرائيل على الخرق، هذه المرة، كبيرة إلى درجة أن الناس قالوا، من باب التكهّن والتحليل: قد يكون هناك آلاف العملاء على الأرض، والله أعلم. لاحقاً، قيل إن الهواتف الجوالة هي نقطة الخرق التي من خلال رصدها ينفذ العدو عملياته. وأبعد الحزب الهواتف عن عناصره، ولم تتوقف الاغتيالات، ولم تتوقف الحرب التي فيها صولات وجولات ومعنويات وترنحات وجانب كبير من العمل الاستخباراتي والتكنولوجي والنفسي، فيما أُعلنت إمكانات "الذكاء الاصطناعي" وما يحمله من بصمات خارقة في ميدان الحروب. وكانت الصدمة الكبيرة باغتيال القيادي في "حزب الله" فؤاد شكر/"السيد محسن" في الضاحية الجنوبية، والذي لم يعرف الناس قبل ذك وجهه وصورته. والآن وجوه دامية بالآلاف، عيون وأطراف وبطون ممزقة. الفواجع تزداد فداحة.
مع تفجيرات البيجرات والأجهزة الندائية الأخرى، صرنا أمام حدث إجرامي ووسيلة جديدة مبتكرة للقتل، يصعب تفسيرها، لكنها ليست غريبة عن أساليب إسرائيل الدموية. ما حصل على الملأ، في الشارع والبيت والمتجر والمركز الحزبي، يمكن اختصاره بالقول إنها الحرب، بل الحرب "التجريبية المتقنة" إذا جاز التعبير. في الحرب العالمية الثانية، جرّبت الولايات المتحدة القنبلة النووية لمرة أولى وأخيرة في ناكازاكي وهيروشيما. تجريب القنبلة الفتاكة غيّر مسار الحرب ونتائجها. في لبنان، نحن أمام مشهد حربي تجريبي إجرامي من نوع آخر. ولا نفع لمقولة: انتظرناهم من الشرق فأتوا من الغرب.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها