نشأتُ في بيتٍ يُوقّر الثقافة الغربية ويضمر احتقاراً لغيرها. كان والدي فرانكوفونياً متحمساً، وانصبت دراسته الجامعية في مدرسة الألسن العليا، والتي أصبحت كلية الألسن لاحقاً، على اللغة الأسبانية وآدابها. وفهم، أو على الأقل ادّعى أنه يفهم، الإيطالية والبرتغالية أيضاً، هذا غير الإنكليزية التي تكلمها بطلاقة. في طفولتي، أذكر أن أول شخصية تاريخية تعرفت عليها، قبل دروس التاريخ المدرسية، هو شارلمان. كانت كتب الأطفال التي يجلبها والدي إلى البيت جميعها مترجمة. قصص من الأدب الأوروبي، ونسخ مبسطة من الكلاسيكيات الغربية، هذا غير موسوعات كبيرة الحجم، بورق لامع مصقول مزيّن بصور توضيحية ملونة بشكل جذاب. وفي واحدة من تلك الموسوعات قرأت للمرة الأولى عن شارلمان وبسمارك وآخرين.
المصدر الآخر للكتب في تلك السنوات المبكرة، كان من جميعة "خلاص النفوس" البروتستانية في الجوار. وبشكل شديد الوضوح، أتذكّر سلسلة القصص المصورة الأولى التي تعلقت بها. لا تحتفظ ذاكرتي بعنوان السلسلة المترجمة عن الإنكليزية، ولا الأسماء الأجنبية لأبطالها الشّقر، لكني أتذكّر لهفة انتظار صدور أعداد مجلة "الخلاص" شهراً بعد آخر، وأتذكر رسوم القصة زاهية الألوان للبيوت الأميركية الكبيرة بأسقفها المصنوعة من القرميد وباحاتها الخلفية المغطاة بلون الشتاء الأبيض. لسبب ما، كان الثلج يهطل دائما في تلك السلسلة، ويقضي الأطفال معظم أوقاتهم في التزلج على الجليد.
ربما كنت في سن التاسعة، أصغر قليلاً أو أكبر قليلاً، حين وقعت عيناي للمرة الأولى على أحد أغلفة حلمي التوني، وذلك في معرض صغير للكتاب في ساحة مدرستي الابتدائية. كان الأمر أشبه بحفلة للألعاب النارية، في الحقيقة كانت أغلفة عديدة له، الواحد بجانب الآخر، على الأغلب من إصدار دار الهلال، جميعها محتشدة بمزيج مدهش من الألوان والأشكال. تداخلت الزخرفات الهندسية المكررة مع خطوط الكتابة، وكأن النص يذوب داخل الصورة ليصبح هو أيضاً شكلاً مجرّداً. تعثرت في قراءة العناوين، لكن ما شد انتباهي كانت الشوارب المعقوفة للرجال وشُعور النساء المموجة وعيونهن الواسعة المكحلة، وكذلك نظام التأطير المختلف عما اعتدته، بأطر داخل أطر على سطح الصفحة الواحدة. والأكثر إبهاراً ولا أنساه، كان رأساً بشرياً على جسد أسد يحمل سيفاً. ولكي استوعب ما حدث يومها بشكل كامل، سأحتاج لوقت طويل.
ينتمي التوني إلى جيل من الرواد، من بينهم محي الدين اللباد وجورج بهجوري وصلاح جاهين وبهجت عثمان وأحمد حجازي وآخرون، ممن شرعوا في العمل من نهاية عقد الخمسينيات، ليحلوا مكان الرسامين والمصممين الفنيين الأجانب في مؤسسات النشر المؤممة حديثاً حينها، دار المعارف ودار الهلال والأهرام وغيرها من الدور المؤسسة في فترة النهضة العربية.
متأثراً بالخطابات الاشتراكية والقومية في زمنه، قرر التوني بعد تخرجه من كلية الفنون الجميلة في العام 1958، التخلي عن اللوحة الزيتية، لصالح المطبوعات، ليكون أقرب إلى الجماهير. وفي ظل الموجة العاتية لحركات الاستقلال الوطني في العالم الثالث، ابتدع التوني جماليات وموضوعات فنية تنهل من التراث المحلي والطرز الشعبية، جنباً إلى جنب مع المناهج والتقنيات الغربية. وانصبّ عمل التوني الغزير على الإخراج الفنّي للدوريات وتصميم أغلفة الكتب واللوغو والبوستر السياسي. وبالإضافة إلى تصميمه أغلفة كتب الأسماء الأدبية الأشهر في تاريخه المهني الطويل، خصص التوني قسطاً وافراً من جهده، للعمل على كتب الأطفال رسماً وكتابة، بحسب مقاصد تربوية ممنهجة. ومن بين أشهر أعماله المخصصة للأطفال سلاسل من كتب التلوين، تستمد موضوعاتها من القصص الشعبي والتراثي، بالإضافة إلى موضوعات سياسية راهنة، على رأسها قضية فلسطين.
في رده على سؤال الأصالة والحداثة، رفض التوني تلك الثنائية بالأساس، ومعها أي تأطير زمني للأصالة. فبحسبه، لا ترتبط الأصالة بأي ماض، بل بتفاعل الفنان مع سياقه في مجتمعه وفي الحاضر بكل حمولاته التاريخية.
في أكثر من موضع، يشير التوني إلى تأثره بفنون المنمنات والزخارف العربية والإسلامية، راسماً شجرة للنسب الفنّي تربطه بالعصر العباسي ورسوم يحيى الواسطي في مقامات الحريري، وتمتد لتضم مدارس الخطوط الفاطمية والزخارف المملوكية اللاحقة. لكن أسلوب التوني في المحصلة الأخيرة، كان حديثاً باقتدار، محلياً وفي الوقت نفسه عالمياً، ولا يصعب تمييز أثر ولو خافت من فنون البوستر السوفياتي بين مناهل أخرى كثيرة. بل ولعل في جمالياته، لمحة خافته من الاستشراق الذاتي لم يستطيع هو نفسه التخلص منها. إلا أن التوني ورفاقه من جيل نزع الاستعمار، خلقوا لنا لغة وبصمة بصرية أصيلة (بحسب تعريفه الفضفاض والمتسامح للأصالة)، فاتحاً أمام أجيال من المصريين والعرب، أفقاً لخيال من الألوان والأشكال والموضوعات، ذاب عنها أخيراً جليد قصص الأطفال المترجمة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها