يتناول لوبروتون أعمار المقاتلين من الأجيال الشابة التي بالكاد تجاوزت سن المراهقة، في وقت تشقّ فيه ثقافة شبابية طريقها وقد غابت عنها الصرامة الطقسية التي كان معمولاً بها، في مجتمعات تقليدية، حُدِدت فيها نقاط الدخول والخروج لصالح مرجعيات اجتماعية وثقافية متنافسة، في حين أنها أضحت اليوم خاضعة لمعايير السوق المعولم الذي بدّد الخصوصيات، وطمس الفروق.
أما الالتزام المبدئي بالجهادية الأصولية، فيعتمد على قرار الشاب ذاته الذي يستمد في هذا العمر الفتي شعوراً متزايداً بالقوة، من خلال جماعة ينخرط في صفوفها، وتمنحه احساساً بأنه يشارك في مغامرة جماعية عظيمة، ويتوجّه عالمه العقلي بشكل صارم نحو التمثّلات والقيم المرجعية التي يطرحها الدعاة الذين يرسمون له من خلالها الطريق إلى الجنة الموعودة. ويشكل هذا التوجّه إجابة أو مفتاحاً يُخرجه من مأزقه الوجودي، ويكتسح دفعة واحدة كل تمثُلاته القديمة وارتباطاته.
يتجاوز لوبروتون المفاهيم والمعايير السياسية السائدة في فهم بنى هذا التنظيم الإسلامي المتطرف أو ذاك، ويعزو دوافع الانخراط فيه إلى جروح الطفولة، وصعوبة الاندماج، لا سيما في المجتمعات الغربية حيث يعيش مسلمون، وقد تفاقمت في حياتهم العوامل النفسية والاجتماعية، المفضية إلى تفكك البنيات الأسرية، وإلى الاخفاق التعليمي، وإلى سوء التربية البيتية.
وتنشأ الأجيال المسلمة الجديدة في الغرب، في سياق العولمة وما بعد الحداثة، وتتناقض مع مرجعيات الأهل الدينية والثقافية القديمة. بيد أنّ الحماسة الدينية الحديثة لدى أولادهم، لا تعني أداءهم الواجبات والفروض الدينية اليومية، ولا حتى الحد الأدنى من المعرفة بحقيقة الإسلام. بل ان جلّهم لم يقرأوا، أو يتدبروا القرآن، وإنما اكتفوا بالإشارات او التفسيرات الدينية المبسّطة في مواقع الأنترنت. وبحسب صيغة أوليفية روا، يعيش هؤلاء الشباب في "جهل مقدس". وهذا الإسلام الموصوف يمثّل لديهم مصفوفة فريدة لإحساسهم بالهوية العابرة للأقاليم والبلدان. الهوية الضرورية المطلوبة التي تتجاوز كل حدود مصطنعة، وتخاطب كبرياء كل شخص مسلم أينما كان. هم مرتبطون بإسلام عالمي خيالي. يمنحهم معنى لحياتهم، بعد أن يجرّدهم من شخصياتهم القديمة، من أجل ولادة جديدة، تمسح ماضيهم الباهت، وتعيد بناء شخصياتهم المتألقة التي تمهّد لحكم الله على الأرض.
والتجنيد في صفوف التنظيمات المتشددة هي استجابة لمسألة البحث عن هوية مصطنعة، تغذي استياء المتطرف من عالم لا يضمّد جروحه، ولا يبالي به. ولأن تنظيم داعش يمثّل التنظيم النموذجي للإسلام المتطرّف، يضيء دافيد لوبروتون على آلياته الدعائية وتجنيده الشباب والشابات، من خلال تطوير هندسة اجتماعية تزوّدهم بأفق سياسي ووجودي، يمنحهم الثقة القوية في تنظيمهم، تتحول مع الوقت إلى روحانية صارمة، وانتقام جماعي لا هوادة فيه، متحصنين خلف حقيقة مطلقة لا جدال فيها، متماهين مع (نحن) أي الأمة المتخيلة التي تحلم بها جماعة من المؤمنين، والتي تشكل غلافاً أخلاقياً، وبنية داخلية معزولة عن الروابط الإجتماعية العادية.
والمفارقة أن "داعش" استغل للترويج لصورته، وبهدف إخافة الآخر المعادي، التقنيات التصويرية والإخراجية الحديثة، على شكل أفلام وثائقية، ومقاطع فيديو، وبرامج إذاعية، ومنشورات مطبوعة. على العكس مما كان من احتراز تنظيم "طالبان" الأفغاني المتطرّف، من توسّل الصورة لبث الأخبار او الدعاية لتنظيمه.
لم يتوانَ داعش عن توظيف المؤثرات الصوتية أو البصرية أو الموسيقية، أو استخدام عمليات القطع او التركيب. وبث صور التعذيب والقتل، وقطع الرؤوس، والحرق، ورمي الجثث والقتلى من النوافذ، وهو بعض ما كان تقليداً لصناعة هوليوودية. وقد حرص الفنيون من داعش على إخراج مشهدية حرق الطيار الأردني بطريقة حِرفية. وتذكر امرأة شهدت عملية الحرق، على ما يكتب لوبروتون، أن المصور الذي تولى تصوير الحادثة، كرر إدخال الطيار إلى القفص أكثر من عشرين مرة، وبعدما هرع حشد من الناس لمتابعة عملية التحريق، طالَبهم بالصمت، وعدم الإجهار بعبارة الله أكبر. وذلك لالتقاط الكاميرا صورة النار، وسماع حسيسها، متزامناً مع طقطقة الخشب المشتعل.
ويحسب لوبروتون أنّ مثل هذه المشهديات تخلق في النفوس ضرباً من ضروب الحبور، أو التطهر بالمأسوي والمرعب.
وحيث يتقاسم المتطرفون الأحكام المسبقة، أو الأوهام التي تتجاهل، او تتعامى عن التعقيد اللامتناهي للعالم، يلاحظ لوبروتون مستشهداً بحنة أرندت أن الشخص المثالي الذي يتقبّل حكم الأنظمة الشمولية، ليس النازي المقتنع ولا الشيوعي المقتنع. وإنما الإنسان الذي لا يميز بين الحقيقة والخيال. وعليه فإن أمر المتشددين المسلمين لا يتعلق بتطرّف الإسلام، بقدر ما يتعلق بأسلمة التطرّف.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها