ما قبل المقدمة
في العالم المتحضِّر هناك سجون للجنائيين، ولكن ليس هناك معتقلات للسياسيين وأصحاب الرأي والضمير.
في العالم المطعون بالتخلُّف والطغاة وصمت الأمم المتحدة ومجلس الأمن هناك سجون كارثية، ومعتقلات جهنمية، تمثِّل عاراً ليس على بلدانها فقط، وإنما على تاريخ البشرية أيضاً.
كان يليق بغيوم قصائد هذه المجموعة أن تتشكَّل مثلما تشاء، وأن تمطر حين وحيث تشاء، وأن تسقي من الأشجار والمروج والورود ما تشاء. أعني كان يليق بها أن تكون متوَّجةً بالأجنحة التي تنتمي إلى الحرية، لا بالأضرحة التي تنتمي إلى سجن صيدنايا أو غيره.
مقدمة
كنت محظوظاً بأن مجموعتي الشعرية الأولى «وما أنت وحدك» وجدت طريقها إلى النشر بسهولة عبر دار الحقائق في بيروت 1979، وتلتها «جلسرخي» عبر دار الأفق في بيروت 1981، ثم أُغلِقت الآفاق أمامي، وانفتحت الأنفاق، ولم يعد سهلاً على الإعلاميين والناشرين العرب أن يمرِّروا اسمي لا بنقد ولا بنشر ولا بتداول.
المجموعة الثالثة «حمامة مطلَقة الجناحين»، صدرتْ مُتأخِّرةً عن أختها الثانية ستة عشر عاماً «فقط»، وللأسف أنها طُبِعَت على نحو سرّيّ تقريباً، إذ تحاشت دار مختارات في بيروت إعلان مسؤوليتها عن إصدارها، وذلك لأن أحذية عساكر جيش الأسد في تلك الفترة، كانت طاغية على كامل مساحة لبنان وفضائه، وكانت أجهزة مخابراته تحصي أنفاس اللبنانيين، والأخطر في الأمر أن المجموعة كانت مهرَّبة من سجن صيدنايا على ورق سجائر مُحْلِص ومرِن ومتعاطِف معنا في الطيّ والإخفاء ضمن ميدالية خشبية أو لوحة صغيرة أو عقد مصنوع من نوى التمر أو الدرّاق، وكان الشاعر، الذي هو أنا، ما زال حينها داخل السجن.
لكل مجموعة بعد ذلك قصتها التي لا تخلو من طرافات وغرائب وفضائح ومفارقات، بما في ذلك هذه المجموعة «تشبه ورداً رجيماً» التي رحَّبَت بها دار «الغاوون» في عام 2012، وأصدرَتْها بغلاف، أكرمني به الصديق يوسف عبدلكي، وبورق فاخر، إلا أن المطبعة الجديدة التي تعاملت معها حينها دار الغاوون لم تتقن التجليد بما يكفي لعدم انفراط الأوراق بعد زمن قصير من تقليب الصفحات. أبلغني حينها الصديق ماهر شرف الدين أن الدار ستعيد طباعة المجموعة، غير أن شأن النجوم لم يتوافق مع هوى السُّراة، فأُغلِقت الدارُ أو توقَّفت إلى أجل غير مسمَّى، بسبب مصاعب عديدة على رأسها المصاعب المادية.
صدر لي، منذ ذلك الحين حتى الآن، عدةُ كتب أقدم وأحدث، وبقيت هذه المجموعة خارج مدارج الرياح والمصادفات وضربات الحظ، إلى أن تواصلتُ مع الصديق سامح خلف مسؤول «دار سامح للنشر» من أجل نشر مخطوط أنجزته مؤخَّراً، وبعد أخذ وردّ وتلاقح أفكار وأطوار وتداعيات، وصلنا إلى تأجيل نقاش المخطوط الجديد، والعزم على نشر مجموعة «تشبه ورداً رجيماً»، التي تضم بعض ما كتبتُه من قصائد ما بين 1995 و 2000، أي آخر خمس سنوات من اعتقالي الذي انتهى على أية حال، وطباعة هذه المجموعة دليل إضافي على أني أصبحت حُرّاً على نحوٍ ما، وبحدود ما.
في الحقيقة يستطيع المرء أن يكون حرّاً إلى درجة قصوى في ما يكتب، حتى وهو في السجن، بل وخصوصاً حين يكون في السجن، ولكن حدود حرية النشر لها شؤون وشؤون وشؤون، ولا سيما في بلدان شرقنا المعاصر، المحكوم بما لا حكمة فيه على الإطلاق.
أعتقد أن تجربتي مع الشعر الموزون في هذه المجموعة، قد قاربت نهاياتها أو مراميها من حيث أدري ولا أدري، فأنا للحقيقة لست الوحيد الذي يعزف أو ينزف قصائده.
«حين أنتهي من كتابة القصيدة
فأنا لا أعرف حقاً
كيف كتبتها
وحين أعيد قراءتها
أستغرب من نفسي
كما لو أن شخصاً آخر
أملاها عليّ
وبودّي لو أقول له:
أنت يا صاحبي
أشعرُ منّي».
فرج بيرقدار
ستوكهولم، أيار/مايو 2024
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها