الصّفحات الأولى للنصِّ الرّوائيّ تَشِي بأنَّ "صانِع المتاهات" يزيحُ السّروب (wandering) هذه المرَّة إلى حدُودِ الوهَن الجسديّ: لمْس المقلاة الحامية.. التعثُّر في ظلمة القبو السّفلي.. فقدان سياق التّصرُّفات.. الانسياب في توهُّـم داعٍ إلى الرّثاء... وهكذا.. بعيدًا عن السُّروب القـديم في كثير من أعماله السّابقة وَكان يدُور في الرّأس متحكِّمًا في سياق متَاهِ حياةٍ مُعَـبّـرٍ عن "إحساسٍ بالغ بإمكان حدوث أمرٍ ما بمصادفةٍ عارضة (Contingency) من شأنها قلب الأمور إلى وجھةٍ غیر متوقَّعة للمرء الَّذي یبدو أحیانًا في قبضةِ النَّصِّ كأنَّه فریسة كافكویة في متاهٍ بیكیتيّ"، ولطالما اعتُبِر ذلك "مقاربة أوستريَّة" للكائن الحديث السَّارب في "عالَمٍ بالغ القسوة، يحكمُه المهووسُون المتعطّشُون للسّلطة".
يعمل بومغارتنر بعد شهُور على فكرةٍ جديدة. ينقِّـبُ الآن "في معضلة العـقـل والجسم المعقدة والمستعصية على الحلّ والتي تسمى متلازمة الأطراف الوهمية". لكنَّ آنا حاضِرة وهي زوجتُه التي توفِّيت منذ عشر سنوات بعد أن عاشَا معًا حياةً حلوة طيلة أربعةٍ وعشرين عامًا. آنا التي يعودُ إليها الآن عبر البحثِ في أوراقها ومخطوطاتها وملفّاتها الخاصَّة المكدَّسة في أدراج عـميقة تُحفـظُ فيها نصوص قصائد وقصص ومراجعات. آنا الحيويّة ابنة العائلة الثّريَّة الَّتي اختارت، بالرِّضَى واللطافة، طريقها الخاصّ في حياةٍ محمولةٍ على الشَّغـف والشِّعر والكِتابَة والإحساس بنبض الوجُود. آنا التي حملتها موجَةٌ قويَّة إلى صخرةٍ قصَمت ظهرها. يتردَّد اسمها في الرواية أكثر من مائةٍ وسبعين مرَّة، القليلُ النادر منها يُرفق باسم عائلتها: بلوم. يسطعُ الاسمُ كاملًا كأنَّه انقشاعُ الضَّبابَ عمَّا يُخفيه أوستر في سياق السَّرد. إنَّها الشَّخصيَّةُ الرَّئيسة لرواية "في بلاد الأشياء الأخيرة" (1987)، والتي قال فيها أوستر الكثير: "إنها شخصيَّة بطوليَّة. آنا بلوم تجلب نفَسًا من التفاؤل بنزاهتها وطاقتها وإنسانيتها... ربما تكون الشخصيَّة الأكثر أهمّيَّة في جميع رواياتي بالنسبة لي. ولهذا السبب فهي تعودُ باستمرار..." (حياة داخل الكلمات، 2017).
تعود آنا إلى بومغارتـنر بقـوَّة الأوهام المتحكّمة في حاضر أستاذ الفلسفة. يحادثها، يسمعها ضاربة بيديها على آلتها الكاتبة، يهاتـفها، يقـرأ نصُوصَها المخزونة... بعد ذلك تنتشله فكرة التـقاعُد من حالة الانغماس في التوهُّم. إنَّها جوديث صديقة آنا المطَـلَّقة الآن (فصل ثالث). يحاول معها الحياة ويخفـق. يلوذ بالكتابةِ طارحًا حالته بالكلمات. يذهب إلى الشَّمس مستلقيًا في فِـناء المنزل. يُرسل أفكاره إلى ذكريات العائلة وأصُولها (فصل رابع) . يستذكرُ الرّحلةَ التي قام بها إلى أوكرانيا بحثًا عن أصُول أجداده لجهة والدته من آل... أوستر. ينهض متوجّهًا إلى غرفة عمله ليسجِّل ما تبقَّى في ذهنه منها. يكتب النَّصَّ تحت عنوان: ذئاب ستانيسلاف.
كتب بول أوستر في بروكلين عن تلك الذّئاب في شهر آذار عام 2020 وكان العالَم مـقـفَلًا إثـر ضرورات الـحـجْـر الَّذي فرضهُ انتشار فايروس كورونا. نُشِر النَّصّ لأول مرَّة في Lithub، وبعد ذلك مترجمًا إلى الفرنسيّة في "ليبراسيون". أجداد أوستر لجهة أبيه من مواليد ستانيسلاف بالفِعل. ذهب إليها بعد أن دُعِيَ للمشاركة في بعض حلقات النقاش في المؤتمر السنوي لـ PEN International. في الأثناء بحث عن ماضي العائلة، وقابلَ بعض المُـلمّين بالأحداث إلى أن سمع الحكاية الرَّهـيبة بكلِّ معنى الكلمة: بعد أن دخل السوفيات المنتصرون في الحرب العالية الثانية المدينة، لم يجدوا ألمانًا، بل وجدُوا مدينة مهجورة فارغة سوى من الذِّئاب، بالعشَرات، بالمئات في الشَّوارع والأزقَّـةِ.
كانت مقاربة أوستر واقعيَّة صِرْف. وكان يمكن لقارئ النَّصّ في أيَّام الـحجْـر أن يرى العالَم مهجُورا فارغًـا سوى من الذِّئابِ الَّذين يعيثون فيه فسادًا. وها هو أوستر بعينه يثبت القصَّة الآن بشخصِ بومغارتـنر عـينه مورِّطًا القـرَّاء في متاهَة الأسئلة عن شبكة العلاقات في كتابه الجديد إذ أنه، بحركة الشطرنج الكتابيَّة هذه، بعد أن كسر السَّدّ ليغمـرَ السِّياق بكلّيـته بحضُور آنـا بلوم الحيويّ، يردّنـا إلى العلاقة الاستثنائيَّة بين الكاتب والكتابة، والعلاقة الأوستريَّة هذه تعبِّرُ عنها كلمته القديمة: "كـائنٌ غريب يضع اسمي على أغلفـة الرّوايات".
يستكملُ أوستر/ بومغارتـنر! الكتابَ بفصلٍ خامس عن باحثةٍ تعملُ على إعدادِ أطروحة دكتوراه عن آنَـا بلـوم وأعمالها، تريدُ المخبَّـأ منها أيضًا، وهذا يعني التّواصُل مع الَّذي كان شريك حياتها. يحتـفـلُ بومغارتـنر بتصوُّر هذا الحضُور. يستعدّ لهُ كصبيّ يفرحُ بما لديه. ولكن، ما من نقطة نهاية في هذا "القدَّاس الجنائزيّ" الأدبيّ الخبيء. فقط بالعودة إلى فـقـرةٍ في الكتاب ربَّما يجدُ المرءُ مسوّغًـا لهذا التعبير. وكان بومغارتـنر عـبَّـر عن حالة "السّجن المؤبَّـد"، قال: "... أظن أنني الشخص الأخير في جناح العزل في السّجن... يتطلَّبُ الأمر الكثير من الجهد لتكوين جملة، والكثيرُ من الجهد يتطلّب الكثيرَ من التركيز، وبما أن جملة واحدة يجب أن تتبع حتما أخرى من أجل بناء عمل من العبارات، فإن الأمر يتطلّب الكثيرَ من التركيز على مدار اليوم، مما يجعل الأيام تمرُّ بالنسبة لي وكأن كلّ ساعةٍ على مدار الساعة لا تدوم أكثر من دقيقة. بعد أكثر من خمسين عاما من مرور الأيام بسرعة، أشعر أن حياتي مرَّت في ضباب. لقد تقـدَّمتُ في السّن، ولكن مع مرور الأيام بسرعة كبيرة، لا يزال الكثير فيَّ مفعمًا برُوح الشَّباب، وطالما لا يزال بإمكاني حمل قلم رصاص في يدي ورؤية الجملة أمامي، أعتقد أنني سأستمر بالرّتابةِ نفسها التي كنت أتبعها منذ الصَّباح الذي وصلت فيه إلى هنا. وإذا جاء وقت لا أستطيع فيه الاستمرار، علي فقط النهوض والمغادرة. إذا كنت أكبر من أن أمشي، سأطلب من سجَّاني مساعدتي. أنا متأكد من أنه سيكون سعيدا حين يراني راحِلًا".
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها